Quantcast
Channel: جنس –тнє ѕυℓтαη'ѕ ѕєαℓ
Viewing all 44 articles
Browse latest View live

سأعتبر ما يقطر من شعرك صدقا مع النفس: أربع قصائد جديدة لمهاب نصر

$
0
0

Leonard Bramer (1596–1674), Mors Thriumphans. Source: Wikipedia

(١)
ولو لمرّة
أريد أن يغوص كاحلاي في الثلج
أن تنتثر ندف بيضاء من شفتي
أحدثك من هناك
في تسجيل حي
غير أن ما يصلك
ليس إلا هواء يتقصف على منحدر
ومن بعيد
يظهر بيت ودخان
الشاعر ينتظرنا.
مخمور في آخر العالم؛
العالم الذي احترق فعلا.
أكلمك من فراء ذئب
أنا شخص آخر
أدور حول بيت الشاعر وأعوي
هذا ما كنت تريد أن تقوله
هذا ما جعل خديك محتقنين
ليس العالم الذي احترق
بل الثلج الذي يذوب
بينما يقرأ الشاعر قصيدته

.

(٢)
من الغموض يقبل وجهك
كما لو مضاء بشمعة
أعني: ليس من واقع
وإنما من قصة.
مخيف أن تحب
كأنك تنهض فجأة على وقع أقدام
هل كانت في حلم؟
مخيف هذا الحنان
كما لو كان الظل المقبل لا يحمل سكينا مثلا
حتى إنك بدلا من إضاءة مصباح
تبتسم فجأة
وكأن كل شيء قد حدث فعلا
تصوّرْ
الموسيقى تغني عن الرؤية
كذا الحنان لا يحتاج إلى عينين
ثم ماذا؟
هذا هو المرعب حقا
لا أن تختفي
بل أن يُطفئ أحدهم الشمعة
أو يطوي كتابا
هنا يصبح الحب مجرد فكرة
عزلة لا تغفر لنفسها أبدا

.

(٣)
لديّ نجوم في الثلاجة
وعلى رخامة المطبخ سكين
هل أنتِ جائعة؟
لدي بشكير بلون السحاب
خذي حماما
وسأعتبر ما يقطر من شعرك
صدقا مع النفس
لدي نافذة أكلم الله على إفريزها
تعالي نؤلف له قصة
انظري
إنه يضحك أخيرا
ألديك فكرةٌ لماذا يفعل؟
عندي أوراق لعب
لكنها تثير الملل
عندي ملائكة لم تنمُ أجنحتها بعد
ستحبين طيرانها القصير
والذي يشبه حياتك تماما
قفزات خرقاء
حتى لا يعرف الواحد في أي شيء عليه أن يفكر
لكن ما أهمية ذلك أصلا
النجوم على فراشك
والله يلعب الورق
وأنا أدرب فكرة على السعادة
بقفزات خرقاء

.

(٤)
قد لا تكون لنا حياة أبدية
لكن هناك ما هو أسوأ
أن نكون أبديين فعلا
موسيقى عبر سماعة الأذنين
لا تصنع ظلا
لا تقول لك متى عليك أن تتوقف
أو تشير: لا
عبر سماعة الأذنين
لا أمل
أنت مسمار في سفينة
لا تحارب عاصفة
لا تستطلع أرضا
يمكنك أن تغفو
أن تلمس العمق الرملي الساكن
لمياه تعكس لون السماء
يمكنك أن تعثر على السماء نفسها هنا
أي وحشة!
ثم إنك تعرف
ماذا لو انتزعتهما من أذنيك
ستمضي الموسيقى في طريقها
محطمة حياتك
لا أقول: ستموت
بل ما هو أسوأ

ليس هذا هوساً بالجنس |محمود عاطف: قصائد وخط

$
0
0
وقد يجمع الله الشتيتيْن بعدما ... يظنّان كل الظنّ أن لا تلاقيا- قيس بن الملوّح
وقد يجمع الله الشتيتيْن بعدما … يظنّان كل الظنّ أن لا تلاقيا- قيس بن الملوّح
البحث عن حبيب
أحببتُ فيلًا.

تقول أمّي:
ولماذا الفيل؟!
ابنة خالتك أولى.


أحببت جملًا.
يقول أبي:

ولماذا الجمل؟!
ابنة عمك أولى.


أحببت لبؤةً.

تقول نسوة في المدينة:

وراودته التي هو في عرينها

عن بناتنا.


أصبحتُ راهبًا 
ونباتيًّا بلا معاناة.
يقول أصدقائي:

دُلّنا على الفيل
دُلّنا على الجمل

دُلّنا على اللبؤة.
إلى “دُخْدُخ”
كانت أحزاننا عادية
وصغيرة
يمشي الواحد في الشوارع 
مطوّحًا يديه في الهواء
لكنّها – فجأة – تعود أثقل مما كانت!
عندك مثلا ذلك الرجل الطيب “دولوز”
لم يقصد أن يسبق الحياة بخطوة
فمات منتحرًا
بجرعة زائدة من الفلسفة،
و”نيتشه” القريب من روحك
طيّب قلوبنا بميكانيزمات الشدّة
لكنّ ذلك السوبر مان بكى
أي والله ياخي بكى.
سيقول لك أحدهم:
يمكن للواحد أن يتخلّص من ذراعه
وليس أسوأ من هذا المجاز المازوخي!
كيف يمكن للواحد أن يتخلص من ذراعه؟!
أولًا: نفّض ما على ذراعك جيّدًا
ثانيًا: املأ به دُرجًا، طابقًا، بيتًا
ثالثًا وأخيرًا: إذ يصير حزنك مشروع مدينة،
ابكِ على مداخلها
فأنت لم تعرف بعد
كيف تقوّض أساساتها بالكتب!
طُف في ممرّاتها المظلمة
وصاحب اللصوص والأوغاد
هم سيرشدونك لمراوغة الحزن
أما أصدقاؤك، فلا تبكِ إلّا لهم
وإيّاك أن تعطيهم خريطة مدينتك
فالدناءة تكمن في خطوط الطول والعرض.
هذه وصفة جرّبها كبار الفلاسفة
ثم جلسوا يبكون طويلًا
كأنهم خلقوا من ملح.
لنبكِ إذًا هذا الملح
ثمّ نسأل الهاوية
من الذي جعل العالم 
مباراة رفع أثقال؟!
وبي من الشجو من تغريد ملهمتي ... ما قد نسيت به الدنيا وما فيها- أحمد رامي في رثاء أم كلثوم
وبي من الشجو من تغريد ملهمتي … ما قد نسيت به الدنيا وما فيها- أحمد رامي في رثاء أم كلثوم
إلى “إنجي سوّاح”

فيما مضى، كنتُ موزّعَ أحلام
حتّى أنّهم سمّوني “ابن الله”.

وكلّ صباحٍ كنتُ أستردّ هداياي:
جنّيّاتٍ صغيراتٍ برائحة الفراولة
لأوزّعها- ليلًا- من جديد

على زبائن آخرين.
من تاه أبوها في زحام الموتى

حملتْهُ جنيّة ليقول لابنته: أحبّكِ،
أخرى همستْ لفتًى بالأمس:

ما ينتهي ينتهي

“ككلّ أشياء الحياة”،

والذي تمنّى الموت ألف مرة

جاءته جنيّة ببحرٍ من الآيس كريم
فدعا الله أن يُحييه مائة عام أخرى.


كلّ صباحٍ

كنتُ أعرف هذه الحكايات، وأكثر
ثمّ – بأسًى – أتذكّر أنّني لا أحلم،

أنّ “ابن الله” ينقصه خيال الله.


*
أيها السيد النبيل
أيتها السيدة الفاضلة
يا من بيدكم جنيّة أحلامي

هلّا ترسلونها من فضلكم؟
!
وبإمكاني عقد صفقة مربحة.
<

*

الآن، أحلم كل ليلة تقريبًا،

ما عادت في يدي جنيّات،
يزورني الموتى من وقتٍ لآخر

لستُ حزينًا على شئ

لستُ سعيدًا بما يكفي

وغدًا، أُطْلق جنيّة أحلامي،

ثمّ أنام،

أنام كثيرًا جدًا،

كثيرًا بما يكفي لكي يصبح العالم
بحرًا من الآيس كريم.
عجبت منك ومنّي يا منية المتنّي أدنيْتني منك حتّى ظننت أنّك أنّي الحلّاج
عجبت منك ومنّي يا منية المتنّي أدنيْتني منك حتّى ظننت أنّك أنّي الحلّاج
ليس هذا هوساً بالجنس
جبهتكِ تمطر فوق جبهتي

فتخرج من فمي وردة

أضعها جانبٍا

ونقرر فيما بعد
من يكون سعيد الحظ.


الأسبوع الماضي كان أبوكِ

وضعناها فوق قبره.

قبله بأسبوع

وضعنا الوردة على قبر أمي
واليوم لا نعرف من؟

هل يكون قبر أبي،

أو قبر أمكِ؟


هكذا، كل لحظة حب بيننا
تولّد حياةً
تكون رفيقًا لأخرى ولّت.

ألم أقل لكِ

ليس هذا هوسًا بالجنس

نحن فقط

خالقان جديدان.
نصوص وأعمال محمود عاطف

فصل الاسم (فصل من كتاب “مذكرات أب لا يجيد الحكايات”): بهيج وردة

$
0
0
project-slide3f24f9ee813b46d29a66a171e2f21af6-1400x933

Heba Khalifa, from “Homemade”. Source: arabdocphotography.org

لطالما رغبت أن يكون المولود الأول في عائلتي بنتاً.
كنت أتوقع أن هذا الموضوع مبني على ردة فعل، مفاده تقليد متوارث على أساسه يفترض أن يقوم الابن البكر بتسمية مولوده الذكر البكر على اسم والده، وبالتالي يحمل الولد اسم جده.
من حيث المبدأ كنت رافضاً للموضوع، رغبة مني في كسر تقليد مجتمعي أولاً، وثانياً لأن اسمي يطابق اسم جدي في الاسم واسم الأم أيضاً – مصادفة غريبة، وبالتالي على ولدي أن يحمل اسم أبي واسم جد أبي، أي يصبح ابني ابراهيم الثالث –في حال المولود الذكر، وفي رأيي لا داع لهذا التقليد.
وأنا أفكر في الموضوع أسأل نفسي، أين سيذهب انتقادي للأنظمة السياسية العربية الفاسدة التي تتوارث السلطة، وترسخ العادات في محاولة منها لإيجاد مبررات الحياة الكريمة لها فقط دون شعبها؟. كيف سأستمر في الحياة وأنا أنتقد والدي الذي أتهمه بمشابهة نظام الحكم في ممارساته وقمعه للديمقراطية والتعددية وأنا أمارس التوريث، وأخضع لإملاءات المجتمع، واسمي ابني على اسم أبي!!
عندما ولدت أنا كان والدي ينوي أن يسميني آرام اسم أخي الأصغر الذي ولد بعدي بأربع سنوات، إلا أن جدي حزن لهذا القرار، وكاد يقاطع والدي على هذه “الثورية” التاريخية ورغبة الابن القادم من أوروبا بأفكار “التحرر” أن يكسر ما يقدر عليه. إلا أنه في هذا الامتحان سرعان ما تراجع أمام البنية العاطفية الهشة التي يتمتع بها كشرقي. وبهذا فوّت عليّ فرصة أن أحمل اسماً تاريخياً عظيماً، وتركني فريسة الوراثة العائلية، إلا أنه هذا ما منحني الكثير من امتيازات الابن البكر الحفيد/ الجد.
لكن كل ما سبق لا يعني أني عانيت أزمة مع اسمي، لقد أحببته وأشعر بامتياز الاسم الذي أعطاني من صفاته الكثير، إلا أني عوضت هذا في الفضاء الافتراضي وجعلت اسمي “آرام” وأضفت عليه “شام” إمعاناً في الحسرة. وفي هذا تناقض كبير، رغم اسمي الموسيقي “بهيج وردة” والذي يراه الكثير من زملاء المهنة اسماً يليق بصحفي –لا أدري على أي أساس مبني هذا النغم الموسيقي، ربما هو وقعه الموسيقي في الأذن!!
قصة اسم المولود القادم لم تناقش إلا مرة واحدة مع الوالد على “سكايب”، نظراً للبعد الجغرافي بين الإمارات حيث أقيم، وسورية حيث يقيم.
مرة واحدة فقط مرّ ذكر الاسم قبل أن نعرف جنس المولود، وأخبرته أني لن أسمي ابني ابراهيم، لكن لم نقع على خيار بديل أنا وزوجتي حين كنا نتحدث عن اسم المولود، وكان لدينا ما يشبه اليقين أن المولود أنثى، وطبعاً اسمها مكتوب في منتصف السطر الثاني في الصفحة 85 من ديوان نادين الصادر عن دار نينوى بدمشق عام 2012 “أخفي الأنوثة”، من القصيدة المؤرخة بتاريخ 2010 أي قبل زواجنا بعام، والواقع أن نادين أخبرتني منذ التقينا أنها تنوي تسمية البنت التي ستنجبها مني “جنى”،  وهذا كان في العام 2006 أي قبل أعوام من كتابتها القصيدة أيضاً.
إلا أن شقيقتي الصغرى صوفيا، طرحت السؤال مباشراً. هل ستسمي ابنك ابراهيم في حال كان المولود البكر ذكراً. لا قاطعة كان جوابي. لن يكون ابراهيم أبداً. واستكمالاً للبنية العاطفية الهشة، لم نصارح الوالد بهذا الكلام، وبقي الحديث بيننا. وانطلقت بعدها مع نادين في رحلة البحث عن اسم للمولود وكان أكثر الأسماء حظوة لدينا هو “مدى”، بناء على رغبتنا في اسم ثلاثي لابننا.
نادين طيلة شهور الحمل الأولى كانت في حالة إنكار للمولود الأنثى التي ترغب بها بشدة، واخترعت تسمية لطفل افتراضي في بطنها، وبحثت طويلاً على النت حتى وجدت صورة له أيضاً، وسمّته كوكي. كل الوقت كان الحديث يدور عن كوكي المفترض، وكوكي فعل، وكوكي رفس، وكوكي يعذبني. حتى جاء موعد الفحص الدوري عند الطبيبة، التي لم تنجح في معرفة جنس الجنين لأنه كان في وضع لا يظهر ما بين رجليه.
واستمر كوكي في حياتنا، وصار كوكي تسليتنا واختراعنا. لوهلة صدقت أو ربما تواطئت مع حدس الأم، وكذبت حدس الأب. أترى يخيب حدس الأم؟. في الواقع كانت موقنة أنها فتاة، إلا أنها أصرت على تكذيب نفسها، حتى جاء الموعد الثاني قبيل سفرها إلى سوريا لمناقشة الماجستير في اليوم الأخير قبل انقضاء المهلة المحددة لها، في ظل حرب الإخوة في سوريا، ووضع سيء غير مسبوق في حمص.
يومها تمنيت بكل جوارحي أن يكون الجنين في وضع يسمح بكشف جنسه، وكذا تمنت نادين. “من غير المعقول أن أسافر إلى سوريا دون أن نعرف جنس الجنين”، قالت حبيبتي. وهكذا كان. “مبروك، بنوتة”. صرختُ “إنها جنى”. فابتسمت الطبيبة قائلة “ابنتي جنى عمرها 4 شهور”، فوعدناها بدجاجة وكماجة جرياً على رأي المثل الشعبي.
لطالما سحرتني أسماء الفدائيين أيام طفولتي، فأسماء من قبيل أبو تالة، وأبو دلال، وأبو ليلى كان لها رنين في أذني. لمَ لا يتكنى الرجل بابنته البكر؟ أم هذا وقف على المنكوب بالبنات؟ وهل البنات نكبة؟ و”همهن للممات”؟ اللعنة على المجتمع الذي يرفق ولادة البنات بالهمّ حتى الممات؟ ألا يرافق همّ الصبيان العائلة حتى الممات؟ لكني لم أختر اسماً محدداً.
أذكر أني كنت معجباً باسم فتاة من طالبات والدي في الجامعة، كان اسمها “شاميرام”. أحببت الاسم؟ لكن “أبو شاميرام” لم يكن له وقع، فبقيت “أبو ابراهيم” في طفولتي كما يردد الجميع ولم أعترض على التسمية، وهي التسمية التي لا يزال بعض أصدقائي على استخدامها حتى مع قدوم جنى.
إلا أن اسماً جديداً قفز إلى الساحة حين كنت في ضيافة عمتي الكبرى ماري قبيل أحد امتحاناتي في التعليم المفتوح بدمشق. فقبل أن أخلد للنوم في غرفة الجلوس التي يوجد فيها التلفزيون وبعد خلود الجميع إلى غرفهم طلبت أن تحدثني في موضوع على انفراد، وكانت الجدية بادية عليها.
اعتدلت في جلستي وبدأت أصغي.
قالت: “عندي أمنية أتمنى أن تنفذها، وأنت الوحيد القادر عليها”.
كاد فضولي يقلتني وقتها حتى أعرف الأمنية، لكنها استدركت بالهدوء نفسه “أرجو منك في حال أنجبت زوجتك بنتاً أن تسميها ماري”.
وقتذاك استغربت الحديث جملة وتفصيلاً لأني لم أكن مرتبطاً حتى!! إلا أنها عادت لإيضاح السبب: “لن يستطيع أحد تكرار اسمي سواك، فلا أحد يحمل اسم أبي “بهيج” سواك، ولو سميتها ماري سيكون اسمها ماري بهيج وردة، وهو بالضبط اسمي الكامل”.
يومها لم أجد ما أقوله لها سوى أني أعدها بإحضار ابنة الحلال التي سيختارها قلبي لتعرض الأمر عليها بنفسها، على اعتبار أن اسم البنت يترك عادة –بحسب المجتمع- للأم دوناً عن الأب في تقاسم للأدوار، وكأن هناك اشتراطاً أن تنجب الأم ابناً وابنة، أو أن لدى الوالدين قدرة على التحكم في عملية الإنجاب تلك!!

وفاء هيكل: حلاقة ساق

$
0
0

Imogen Cunningham, The Unmade Bed, 1957. Source: 1stdibs.com

تسألنى فيما أفكر عند حلاقة ساقي.
أفكر فى الدجاجة التى تناولتُها على الغداء. الفرارجى يمسكها من بين ساقيها… يبدو الوضع حميميًا للغاية.
أقول لك: وضع ربما نفعله أنا وأنت.
ولكنه يعود فيمررها على ماكينة تشبه آلة الحلاقة.
أفكر فى ذلك الريش الأبيض الملطّخ بالدماء، شكلها النهائي وهى عارية برأس مدلّاة ساخنة هامدة… وأشتهى الدجاجة.
في جزّازة العشب: منزل بحديقة خلفية. لا بأس بمقعدين وقدمين متسختين من بقايا عشب مبلل.
هل يجب أن أتوقف عند الركبتين أم أستمر للفخذين؟ نصف ساق حليقة تبدو مناسبة، مثل نصف جريدة لم يقرأ… نصف تفاحة لم يؤكل.
كم امرأة تقوم بحلق ساقها الآن؟ خمس عشرة، تسع، عشرون؟ اخترع الآلة مهندسان اسرائيلان عام ١٩٨٦.
يوم قام الفلسطينيون بانتفاضة الحجارة وقال اسحاق رابين “سنكسر أيديهم وأرجلهم إن أضطررنا”، كان اقتصاد بلاده يستعد لتسويق وسيلة أفضل لأرجل ناعمة. ٣٠ مليون آلة حلاقة ساق ضد ٣٠ مليون حجر!
أفكر فى احتمال أن تكهربنى الآلة وأموت. كيف سيتندر الناس علىّ؟ أركّب جُملا جديدة فى رأسى يقولونها بينما أستمر في التقاط شعر ساقي الذي صدمني اكتشافه في الثالثة عشر.
سيقولون “ماتت من أجل سيقان جميلة” أو “طول عمرها فلاحة ما كانش لها فى الحاجات دى”.
ربما يكتب عنى فى صحيفة: “توفيت أمس فتاة عمرها يناهز العشرين جراء شحنة كهربائية نتيجة لاستخدامها الخاطئ لآلة حلاقة الساق حيث كانت تجلس بجوار حوض الاستحمام… للمزيد من التفاصيل: صفحة ٣.”
وربما تلهم قصتى جمعيات حقوق المرأة فيقومون بعمل حملات توعية: “كيف تحلقين ساقك بدون أخطار” يستضيفونك لتحدثهم عن المأساة. وفى النهاية يسألونك: من أنت؟
يتوقف صوت أزيز الآلة فجأة. أرفع رأسى نحوه.
سيسألونك من أنت؟
لا يوجد رد. يعود الأزيز يملأ الحجرة. أنتقل إلى الساق الآخرى.

أحمد الفخراني: حكاية الرجل الذي أصيب بشهوة الكلام

$
0
0

Jean-François Rauzier, Bibliothèque Babel, 2013. Source: espazium.ch

لا أعرف كيف أصبت بشهوة الكلام. الشهوة التي سعرت الجحيم من حولي. فبسببها خلعتني زوجتي. هرب أولادي إلى بلاد بعيدة. لفظني أصدقائي. أجبرني مديري على استبدال معاشي قبل استحقاقه بعشر سنوات
أنا لم أكن متكلما ولا صموتا، كنت مثل الآخرين تماما: أنم عند النميمة، أصمت عندما يكلفني الكلام ثمنا ما، أواسي في العزاءات مدعيا الحزن، لا أفوتيرحمكم اللهولايهديكم ويصلح بالكم، أهنئ في الأفراح، أتحدث منافقا ومتملقا في المواضع التي تستوجب ذلك، أسب الدين عند الغضب
لكن كل شيء تغير في لحظة. لم أعد قادرا على التوقف عن الكلام أكثر من عشرين ثانية، وصلت بالتمرين إلى نصف دقيقة. كنت كمن يحاول حبس أنفاسه تحت الماء
أتذكر اليوم الذي أصابتني فيه شهوة الكلام. كان يوما عاديا مؤهلا للمرور بسلام كسائر أيامي. أنهي عملي في الثانية ظهرا، كما تعودت منذ عشرين عاما.
أتساءل فقط إن كان الأمر يتعلق بذنب ما لخروجي عن مسار يومي المعتاد. أراجع كل تفصيلة في هذا اليوم. لا شيء استثنائيا. حتى اشتهائي لأكلة ممبار خارج البيت لا يمكن التعويل عليها. ليس بإمكاني التصديق أن حياة المرء كما عرفها يمكن أن تنهار من أجل شهوة عابرة
في الرابعة عصرا، موعد قيلولتي، عرفت أن عهد النوم قد ولى إلى غير رجعة وبدأ عهد الكلام
جمعت زوجتي وأولادي في صالة البيت. توقعوا شيئا أعتبره كالعادة شيئا جللا في مصير العائلة، ويرونه تافها، أو أن ألومهم على تقصير ما اكتشفته فجأة بأثر رجعي وفق عاداتي في الحديث، لكني سألتهم عن الطقس
دون أن أسمع إجابة وقبل أن أمنحهم الفرصة للدهشة واصلت حديثي من سؤال الطقس إلى الكلام عن التغيرات المناخية وأثرها على كل شيء، ذكرت معلومات أذهلتهم بشأن الأمر. أنا الذي لم أقرأ يوما كتابا أو جريدة، أنا كاره القراءة العتيد، أنا الشخص العادي الذي إذا رأى كتابا في يد شخص، سيفترض أن الاحتمال الوحيد لذلك هو كونه مقبلا على امتحان دراسي ويسأل الله له التوفيق
من التغييرات المناخية فتحت معبرا لحديث آخر لم ينته عن كارل أوف وكيف كتب كارمينا بورانا، أنا الذي لم أستمع طيلة حياتي إلا إلى أم كلثوم، والتي أرى ما عداها دربا من الكفر والتعالي والخنوثة. فيما بعد سأدرك أني لم أكن دقيقا، سأعرف رغما عني أن أم كلثوم كانت الاثنين معا: ذكرا وأنثى… الكمال والجمال كانا هنا بالضبط فيما رفضت الاعتراف به: الخنوثة
من الرابعة عصرا وحتى الرابعة فجرا لا أكف عن الحديث مع عائلتي، أنام جالسا وأنا أحاول استكمال روايتي عن التاريخ من أي مدخل: الطقس، كرة القدم، فِساء أطلقه أحد أفراد العائلة، طبيخ الزوجة، حيضها، العادة السرية التي يمارسها ابني الأكبرحكيت عن مغامراتي الجنسية صغيرا، وطول قضيبي، والأوضاع التي تفضلها زوجتي، تجربتي للخشن ذات مرة، شعور ابني الأوسط بالنقص، أنانية الأصغر وهوسه بذاته
من كل شيء يمكن أو يصعب تخيله، كنت أجد طريقا لحديث لا ينتهي، بتسامح وبلا محاذير كنت أخشاها في حياتي السابقة قبل أن أصاب بداء شهوة الكلام، وهبت لذلك حياتي التي كانت تنهار من حولي، دون أن أشعر ودون أن أملك شيئا لمنع هذا الانهيار
زوجتي أخبرتني أني لا أتوقف عن الحديث حتى في أثناء نومي
كنت أصحو في موعدي في السابعة للذهاب إلى العمل ولا أكف عن إيجاد مداخل للحديث مع زملائي: من فسادهم وأسرارهم التي ظنوا أن إخفاءها سيجعلهم أكثر احتراما، نميمتهم الفاحشة كمؤخرة لبوة
واصلت حكاياتي ومعلوماتي التي لا تنتهي، رغم تنبيه مديري في العمل. اتخذت تنبيهه كمدخل للحديث عن معلومات ذكرت في كتاب ما عن أن جمال عبد الناصر كان جاسوسا إسرائيليا، لم أهتم حقا إن كانت المعلومة صحيحة أم لا. لكنها ذكرت في كتاب لم أقرأه من قبل
لم أخبر أحدا عن الرؤيا التي صارت أكثر وضوحا الآن لنبع المعلومات التي أذكرها ولا أهتم بصحتها من عدمه: ثمة مكتبة كونية تضم كل كتاب ومخطوطة سطرها الإنسان. كانت الصفحات تنفتح أمام عيني، تقفز من مقطع في كتاب إلى آخر بسرعة البرق، تأتيني بصورة واضحة مهما كانت اللغة المكتوبة بها. كنت مجرد وسيط لسيرة الإنسان الحقيقية والمتوهمة لشائعة وجوده
استطاع مديري أن يجد نقطة ما تحت بندالإهمال الوظيفيمتغافلا عن المعجزة الكبرى التي أمثلها. خيرني بين الفصل والمعاش المبكر. وقعت أوراق المعاش وأنا أتحدث عن أهمية اللحظة التي قال فيها جاليليو هامسا عقب تراجعه عن رأيه لإرضاء الكنيسة: “لكنها تدور، وعن أن إخناتون لم يكن سوى النبي إبراهيم، والد الديانات السماوية الثلاث والتي حولها البشر وفق كتاب آخر إلى عقبات ثلاث
لم تتحمل زوجتي. فخططت لهجري بشكل مثالي. وجدت نفسي زوجا مخلوعا، وخططت لنفسها ولأولادي طريقة سفر إلى كندا لبدء حياة جديدة بها كلام أقل
لم ينجح الجيران في طردي من العمارة عندما بدأت الطرق على أبوابهم للحديث. لكنهم صعَّدوا الأمر. اتفقوا على طريقة واحدة بعد مداولات استغرقت أشهر: اقذفوه بما تيسر. زجاجة ماء، كولا، كرسي قديم، صفيحة قمامة. كان على الرسالة أن تكون واضحة كي أعود أدراجي. كان جمهوري يلوذ بالفرار
لكني توصلت إلى حيلة عندما أدركت حاجتي إلى مستمعين جدد. مستمعون لا يتمكنون من الفرار بسهولة كما أن تعذيبهم بالكلام المتواصل سيرتبط بمدة زمنية محددة، سيكونوا بعدها أحرارا
أعجبتني الصفقة التي رأيتها عادلة
لذا كنت أقضي يومي متنقلا في المواصلات العامة: ميكروباص، ترام، قطار، أتوبيس، مترو. بدأت فيها بالتحدث إلى الجميع. مع الوقت كونت خبرة في اختيار ضحاياي المستعدين للاستماع قبل أن يدركوا أي رمال متحركة قد غاصوا فيها، من خلال عبارة أقذفها كبالونة اختبار بنفس التقنية: الطقس، كرة القدم، فِساء أطلقه أحد الركاب، لأتحدث عن كل شيء عبر كل شيء. جُبت مصر كلها من أقصاها إلى أقصاها متحدثا
لا أعرف إن كان المستمعون العابرون هم من ألهموني أن أبدل وظيفتي في كل مرة، لأصبح موجودا في الأحداث كبطل أو شاهد. كنت أصبغ على نفسي صفة تقنع الآخرين بثقافتي وأهليتي لما أتحدث عنه: طيار… سفير… عالم… ضابط مخابرات متقاعد، أي شيء إلا كوني مجرد موظف. أنا الآن مونتير لسيرة الإنسان وخالق لآلاف السير المحتملة التي طمسها النسق
استقرت حياتي بعد اكتشافي لحيلة المواصلات، حتى انطفئت بغتة شهوتي للكلام، كما تنقطع الكهرباء عن الحي.
كنت في حديث عابر صار روتينيا في حياتي مع شخص لا أعرفه بجواري في ميكروباص. أقرأ عبر المكتبة الكونية آلاف الاحتمالات لحقيقة الكون واثبا من مقطع إلى مقطع، حين قفزت الكتب فجأة من فوق رفوفها في هلع، خوفا من كتاب ضخم يبتلعها واحدة تلو الأخرى أو يصوب تجاهها بندقيته، كتاب شره وقاتل محترف لم أتبين حقيقته
الكتاب نظر إلى عيني بقوة، دون أن يملك عينين حقيقيتين. ثم كشف لي صفحة موجزة لسيرة حياتي الضحلة، وتاريخ موتي الذي اقترب، فأصابني الخرس.
لم يرعبني تاريخ موتي قدر ما أرعبتني ضحالة سيرتي في حكاية الكون. أنا شخص تافه، يليق به أن يكتب قصة حياته صحفي تافه مثلك. لا أملك سوى القبول بك دون أن أعرف اسمك حتى.
لم تنته حكايتي هنا، فبعد أن أصبت بالخرس عاما كاملا، عاد الكتاب المخيف، انفتح لي مجددا، لكن لم تكن هناك سوى عبارة واحدة تسود كل صفحات الكتاب الضخم: لافكاك من البحر. لم تبد لي ذات معنى كبير، لكني هوست بها.
ظللت أردد تلك العبارة في كل لحظةلا فكاك من البحر… لا فكاك من البحر، بلا توقف. أرسلتها إلى زوجتي السابقي وأولادي في في برقية، فعادوا. أرسلت برقيات أخرى خاطبت بها المسؤولين، فأعادوني إلى وظيفتي. أرسلت الآلاف منها إلى كل جهة. أما جيراني فنصبوا لي مصطبة أمام البيت، ليستمعوا في نشوة وترقب للعبارة الوحيدة التي لا تتغير: لا فكاك من البحر.

SaveSave

SaveSave

رؤيا شعبان: ليس كل من يأتي من إنكلترا يحبُ الروك أند رول

$
0
0

Rolling Stones cover art by Andy Warhol. Source: recordart.wordpress.com

كنتُ أحب تدخين السجائر مع صديقي عباس، كُنا نحب السجائر والموسيقى الجيدة. أدخنّ في الخفاء، لم يكن مسموحًا لي بالتدخين لأني فتاة ولأني من عائلة مُحافظة. لا تسألوني ما علاقة التدخين بكون الفتاة شريفة، فأنا أيضًا لا أعلم، لكن أخي عبد القاسم ينعت كل مُدخِنة بالعاهرة. كان عباس هو من يجلب لي السجائر، يتستر عليّ، يشاركني تلك البهجة العابرة.
نصعد لسطح المبنى المجهور في نهاية شارعنا. نجلس على حافة السطح، نراقب المدينة، نتسابق في قذف الحجارة لأبعد نقطة ممكنة، نتبارى في البصق على المارة بينما دخان السجائر يُحلق فوق رؤوسنا. أغنية صادحة من أغاني الرولينج ستونز تلعب في المُسجل الصغير خلفنا. لا أحد يعرف لم توقف العمال عن إنهاء البناء المهجور، يقال إن حادثة فظيعة قد جرت أثناء عملهم عليه في مطلع التسعينات. كُنا نحب الجلوس هناك، خاصة في المساء. كانت موسيقى الروك أند رول تجعلني أحلق مثل سحابات الدُخان. أحيانًا يسبقنا الآخرون للسقف. وأحيانًا نستبقهم ونطردهم. كان المبنى المهجور في نهاية شارعنا ملاذًا لمعظم العُشاق ومدخني الحشيش من المراهقين والصغار. يتألف المبنى من ثلاثة طوابق. واسع وكبير. كانوا يختبئون فيه بحذر، يتبادلون القبلات ويمارسون الحُب ويتعاطون المُخدرات. أحيانًا نختبئ أنا وعباس في الطوابق الأخرى بين الشقق ذات الجدران الأسمنتية المتآكلة لنراقب الشبان والفتيات وهم يتضاجعون من بين الثقوب. أجسادهم تتهاوي ويكتمون الصيحات… تلك البناية، باختصار، كانت مثل ستار يحمي جميع المتمردين في حينا مِن عيون المُجتمع التي تترصدهم، كل شخص يأتي إليه يحاول إخفاء شيء ما، تمامًا مثلما كُنت أخفي حبي للسجائر.
أنا وعباس كُنا صديقين مقربين منذ الطفولة. لم يكنّ عندي صديقات ولا أعرف سواه. فشلت في كسب محبة البنات، ربما لأن واحدة منهن لم تحب الموسيقى نفسها. كنت أقضي معظم وقتي معه، السبب الذي يجعل أمي توبخني حين تراني عائدة من المدرسة برفقته نقهقه حول أمر ما، أو نجري خلف بعضنا البعض ونتصارع. تقول لي: أنت لم تعودي طفلة، عيب تمشي مع ولد في الشارع، الرجال ما فيهمش أمان. وهو خلاص أصبح رجلًا… أما أخي عبد القاسم فكان يثور مثل البركان حين يرى عباس معي. ضربني ذات مرة في الشارع لأني كنت أتبادل سماعة الووكمان معه، كسر الجهاز وهدد عباس بالقتل لو رآه برفقتي من جديد وفرض علي لبس قطعة قماس فوق رأسي. لم نهتم لكل ذلك. كانت صداقتي بعباس تفوق مخاوفهما. عباس لم يسبق وأن أحب فتاة من عمرنا. كان دائمًا يميل للسيدات. يحكي لي عنهن باستمرار. ارتبط ذات مرة مع سيدة تكبره بخمس عشرة سنة، كانت أرملة وجميلة وتعيش وحيدة. شعرها أحمر وعيناها جميلتان. كان عباس يحبها جدًا ومولعًا بها. كانت الحياة جميلة وقتذاك، حين كنا لا نزال في المدرسة الثانوية. كل شيء مثالي، لا شيء يمكنه أن يحطم تلك السعادة. وكانت هناك حياة كاملة بانتظارنا.
أخبرتني أمي بأنني سأتزوج حين أنهي دراستي الثانوية أي أني لن أنهي تعليمي الجامعي وكشفت عن سبب رغبتها في ابتعادي عن عباس: لا يجب أن تراك إحدى أخواتي معه في الشارع وإلا قد يعدلون عن الخطبة. كانت تريدني لابن خالتي الذي يدرس في إنكلترا، لم يسبق لي أنّ قابلته منذ أن كنت طفلة صغيرة. قالت لي أمي بأنه سيأتي لزيارتنا، سوف نتعرف عن بعضنا، وسوف يأخذني معه لإنكلترا بعد الزواج. كنت أطوق لذلك في الواقع، لم آبه لإكمال دراستي. كنت أريد أن أكون هناك في إنكلترا برفقة رجل وسيم، فإنكلترا هي الجنة. بلد البيتلز والرولينج ستونز وبينك فلويد.
لم تكن عندي طموحات كبيرة في الحياة، كل ما أردته هو الموسيقى والاستمتاع بوقتي. لمْ يسبق وأن أقمت علاقة عاطفية مع أحد… رغم أنني كُنت معجبة بأحد الشبان في حينا، عازف القيثارة. تمنيت أن أتعلم كيف أعزف على القيثارة مثله، كي أعزف كل تلك الأغاني التي أحبها، أغاني ديفيد بوي، وأغاني دا هو. كان ذلك أول ما رغبتُ فيه. قال لي عباس: ربما ستتعلمين العزف حين تذهبين لإنكلترا.
كنت متحمسة جدًا، أحيانًا أتساءل: هل تظن بأن ابن خالتي سيسمح لي بتدخين السجائر بعد أن نتزوج؟
ويقول لي عباس دائمًا: لا شك بذلك، لابد وأنه مُختلف. إنه يعيش في إنكلترا.
كنا حالمين وصغارًا، ولم نعرف شيئًا عن العالم أكثر مِما اكتشفنا بأنفسنا. كنا نظن بأن كل من يعيش في إنكلترا مُختلف، وكل من يعيش في إنكلترا يحب الروك أند رول، وكل من يعيش في إنكلترا يشرب الفودكا ويرتدي الملابس الغريبة… حتى جاء ذلك اليوم الذي التقيتُ فيه بخطيبي المُنتظر. كنت متشوقة لأسأله عن الحفلات الموسيقية التي حضرها هناك، هل سبق وأن شاهد ميك جاجر أو بول مكارتني على المسرح يغنون ويرقصون؟
كان ابن خالتي حاد الملامح ووسيمًا بعض الشيء، ضخم البنيان لكن لا يبدو فيه أي شيء مُميز. كان يلبس قميصًا عاديًا مثل التي يلبسها أخي الذي يطيل لحيته ويشمر سرواله القصير. لا يوجد عليه شعار لفرقة من تلك الفرق التي نحبها أنا وعباس أو التي لا نعرفها. لم يكن يضع قرطًا على أذنه مثلًا، أو يلبس قبعة أو يضع تاتو في أحد ذراعيه أو يملك تسريحة شعر مختلفة عن تلك التي نراها كل يوم في الشارع. كان عاديًا أو أقل من ذلك، ومهذبًا أكثر من اللازم. كان جادًا أيضًا، ولا يتكلم. جلسنا سويًا لوقت طويل. تبادلنا النظرات بصمت. كان يبدو أكثر خجلًا مني، فقد كُنت متحمسة وكانت تعابير وجهه لا توحي بشيء، جعلتني أهدأ. سألته في نهاية المطاف السؤال الذي كنت متلهفة لطرحه:
– هل تُحب الموسيقى.
رد عليّ:
– أجل. لكني لا أستمع كثيرًا. أعني أحيانًا ليس كثيرًا.
– هل تحب الرولينج ستونز؟
– ها؟
– إنها فرقة روك إنكليزية شهيرة.
– لا أدري، أظن بأني سمعت عنهم، لكن لا أحب الروك أنـ..(تلعثم قليلاً وأكمل ) كما أني أفضل الموسيقى العربية. لا أحب الأجنبية.
– حقًا؟!
– أجل.
وصمتنا. انتهت تلك المقابلة على ذلك النحو. لم يخبرني أي شيء عدا الأطباق التى يحب أكلها، أو كيف يفضل أكل المعكرونة. ولم نتحدث عن أي شيء مهم. كنت وقتها قد شعرتُ بإحباط شديد. تحطم قلبي للمرة الأولى. خفت من أن لا تكون إنكلترا جميلة كما أتخيلها. ربما هي لا تشبه تلك الأغاني التي نحبها. عدتُ لتدخين السجائر مع عباس، يجلب أشرطة الأغاني. نتكلم عن الفِرق التي نحبها، نستمع للألبومات القديمة التي استعرناها بصعوبة من أشخاص مختلفين. نغني بإنكليزية رديئة، نردد الكلمات ونلحنها، نتسأل عن معاني بعض الكلمات. كانت حلقة غير منتهية تتكرر كل يوم فوق سطح المبنى المهجور. أمُسِك بصور المغنين البالية الموجودة على أغلفة الأشرطة. أحلم بأني نِمتُ مع واحد منهم. ما هي الوضعية التي يحبها هذا وما هي الوضعية التي يحبها ذاك، أحاول أن أتخيل. ثم يظهر ابن خالتي أمامي، يأخذ مكان صورة المغني الذي على الغلاف. أدرك بعدها بأني لنّ أكون مع أحد منهم إطلاقًا. شعرت بالتيه، بأن حياتي لن تكون جميلة كما أردتها أنّ تكون في مخيلتي. قلت:
– أظن بأنه لن يسمح لي بتدخين السجائر أيضًا.
– ربما عليك أن تتوقفي عن التدخين.
– كم فتاة تظن بأنه قد ضاجع هناك؟
– ماذا؟
– إنه يعيش في إنكلترا ولا يعرف الروك أند رول.
– هاهاها، ليس كل من يأتي من إنكلترا يحب الروك أند رول.
– أنا خائفة جدا يا عباس.
قذف عباس بسيجارته حتى اختفت في الهواء، قال شيئًا ما لم افهمه قبل أن يمسك كفه ذراعي بقوة، تحسست قبضته ونظرت نحوه فاقترب مني. ظننُت بأنه سيحاول تهدئتي كما يحدث في كل مرة أبدأ فيها في الثرثرة عن مخاوفي وعن حياتي الخاصة. وضع يده على مؤخرة رأسي وباغتني بقبلة على شفتي. شعرت بشفاهه فوق شفتي، أحسستُ بأنفاسه تعبر خلالي مثل الدخان الذي ينفث عبر فتحات الأنف بعد نفس طويل، جعلني أرتعش. كانت تلك أول قبلة في حياتي. أجل أول قبلة. كانت باردة، ومرت بخفة كما لو أنها قطرة ماء وقعت من مكان مرتفع وهزت البحيرة. لم أتحرك من مكاني، ولم أفعل شيئًا. لبعض الوقت، تجمد كل عرق يحتوى الدم في جسدي، بعدها بلحظات ثرت وتدفق الدم بسرعة وأنا ادفع عباس عني:
– جننت…
أطاح بي عباس أرضًا، أسقطني ممددة على طولي، اهتز رأسي، تألمتُ كثيرًا. حاولت أن أنهض بسرعة، لكنه سبقني بمسك يدي وثتبيتهما نحو الأرض، وصار جسده فوقي. صعقني  بنظرة شرسة لم أعهدها فيه. تضاعف إحساسي بالخوف والتيه. كنت أردد: ما بك؟ لكنه لم يكن يجيب. بدا لي عباس غريبًا، كما لو أني لا أعرفه. فكرت للمرة الأولى في حياتي: من يكون عباس؟ كنا دائمًا معًا، لكني من كان يتكلم باستمرار. لماذا يحب عباس السيدات الكبيرات؟ ماذا يريد أن يصبح عباس حين ينهي تعليمه؟ هل سبق له وأن مارس الحب في الخفاء مثل بقية الشبان والفتيات في حينا؟ وقعت السيجارة التي كنت أمسك بها، توقف عقلي! بوسعي الإحساس بحرارة دخانها ينفث تحت يدي. ربما أحرقتْ صورة المغني التي كنت أمسك بها أيضًا. كنا على حافة المبنى وعباس بكامله فوقي، يثبت يدي. رفع قميصي بهدوء وأدخل يده بينما كنت أنا في حالة من الذعر لم أقاومه. شعرتُ في البداية بيده الدافئة فوق جسدي، تتحرك للأعلى، من بطني. خِفت. ثم انحنى بجسده حتى لامس جسدي، وأخذ يقبلني على وجهي وعنقي. لم أفعل شيئًا. كنت أعلم بأن شيء غبي مثل هذا قد يحدث في يوم ما، كنت أعلم ذلك دومًا. لكني فقط لم أتوقع أن يفعل عباس بي ذلك. ربما شعوري بالصدمة هو ما جعلني لا أفعل شيئًا. ظننت أن عباس لا يهتم كثيرًا بي، هكذا كنت أعتقد طوال حياتي، والآن أنا عاجزه أمامه. شعرت بيده تنزل إلى أسفل بعد ذلك تحاول فك أزرار بنطلوني. وكان يحكم القبض عليّ بيده الأخرى وجسده الثقيل يمنعني من الحِراك. صحتُ أخيرًا: توقف يا عباس، هل جُننت؟
لم يتكلم ولم يقل لي شيئًا، بل كان ينظر بحدة، لا ينظر لي ربما، كان يبدو كما لو أنه ينظر لشيء بعيد، أبعد مِني. كما لو أنه انتظر طوال حياته لأجل هذه اللحظة. واصل فعل ذلك بلا مبالاة بكلماتي. كان يستعد للقيام بشيء فظيع، شيء سيهلك حياتي وحياته. واصلت الاهتزاز والصياح: توقف يا عباس. أرجوك توقف أنا خائفة!
لكنه لم يكترث. فك حزام بنطلونه وخلعه، وبدأ بسحب بنطلوني بسرعة ليكشف عن سقي المرتعشتين. بدأتُ لحظتها بالمقاومة بعنف والخدش بأظافري والصراخ بكل ما استطعت، وسمعته يقول لي بصوته الذي عهدته هامسًا:
– توقفي أيتها الحمقاء، أنتِ لي منذ البداية. لقد كنت لي على الدوام.
– أنا مخطوبة سأتزوج!
– لكنك لا تحبينه. لا أحد سواي يحبك.
– عم تتكلم؟
اقترب مني أكثر، بوسعي الإحساس بحرارة جسده تلسعني مثل الدبابير الخفية. قال لي:
– بهذه الطريقة فقط لن يتزوجك أحد غيري. ستكونين لي للأبد.
نظرتُ لعينيه، كان هناك وهج غامض حوله، لم أفهمه إلا في وقت بعيد من ذلك اليوم. شعرتُ بشيئه يخترقني. وكأن الزمن توقف. لقد تمزقت! لبضع دقائق كل ما كان بوسعي سماعه هو صوت ميك جاجر  في المُسجل يغني:
I stood and held your hand.
And nobody else’s hand will ever do
Nobody else will do
Then I awoke
Was this some kind of joke?
صرختُ بصوت عال. وضعت كلتا يدي على صدره ودفعتُه بكل جهدي. كُنا على حافة المبنى، على الحافة تمامًا حيث جلسنا مِئات المرات نستمع لموسيقى الروك أند رول ونترك سيقاننا تتهاوى ونحن نستمع بسجائرنا. لم يكن هناك أي جدار يحيط بالسطح، لم يكن هناك أي شيء بوسعه الآن أن ينقذ أحدًا مِنا. تدافع عباس للوراء كالمخدر بفعل يديّ، لحظات ثم تهاوى للخلف.
***
كانت تلك الحادثة الفظيعة الأخرى التى وقعت في المبني المجهور في نهاية شارعنا مطلع الألفية. وتسببت في إخلائه وإزالته. كيف تزوجت؟ كيف سافرت لإنكلترا؟ لا أعرف. عشتُ حياة متهالكة أراقب العالم من حولي وهو يتغير. أحيانًا أتسأل ماذا حدث، أحيانًا لا أعرف كيف عشتُ حياة كاملة في صمت دون أن أخبر أحدهم بما جرى. ربما شعوري بالذنب، أو الخوف هو ما جعلني خرساء عن قول الحقيقة. كان بوسعي أن أخبر الجميع وأن أتخلص من شبح عباس الذي لم يتوقف عن مطاردتي، لكني لم أفعل. لا أعرف كيف قاومت لجوار زوجي كل تلك الفترة دون أن يكتشف شيئًا عني، كُنت اتحجج . أريد أنّ أنهي تعليمي، ما زلت صغيرة. كُنا على وشك الطلاق عندما مات، في الواقع أنا أيضًا لا أذكر إن كنت أنا من قتل زوجي كما قتلت عباس، أو أنه مات في حادث بالفعل كما دُون في سجل الوفاة.
صِرتُ أرملة ووحيدة، صبغت شعري بالأحمر لأتخلص من ذاتي القديمة، صرتُ تمامًا مثل السيدات اللواتي أحبهن عباس حين كنا في الثانوية. لا أحد سواي يحبك. تتكرر كلماته الأخيرة في رأسي باستمرار، ونظرة عينيه لا تفارقني أبدًا، أراهما على وجه كل رجل أقترب منه. توقفت عن الاستماع للرولينج ستونز، صار صوت ميك جاجر يصيبني بالاكتئاب. الموسيقى كلها تصيبني بالاكتئاب. عدتُ من إنكلترا وأنا لا أعرف شيئًا عن الروك أند رول. لم يعد هناك سجائر أو موسيقى جيدة، لم يعد هناك سوى عباس وهو يسقط.

SaveSave

مهاب نصر: أربع ملاحظات على موضوع الجسد

$
0
0

From “Star Dust” by Ludovic Florent. Source: photographersroom.com

الشياطين

..

في السنة الأولى من المرحلة الجامعية عرض عليّ زميل موهوب، طويت حياته بسرعة عجيبة، أن أشارك مع فريق في عرض مسرحي. أُسند إليّ دور المحقق. هكذا كنت معظم الوقت أجلس إلى مكتب في مواجهة الجمهور المفترض، وكان هذا لطيفا. بدأت المشكلة فعليا، التي أدت إلى اعتذاري فيما بعد، في المشاهد التي كان عليّ فيها أن أغادر موقعي، قامتي كلها مكشوفة، وهنا وجدت صعوبة غير عادية: ماذا عليّ أصنع بهذا الجسد كله؟ لقد بدا مفصولا عني، وكأني أراه بعين متربصة من آخر الصالة، وتحت نظرة هذه العين كانت ذراعاي عاجزتين عن الحركة، ثقيلتين كأنهما من خشب. أما تعابير وجهي وقسماتي فكانت فضيحة كاملة. قلة خبرتي جعلتني أتفهم الأمر على أنه نوع من الخجل الطبيعي، أو أنني ببساطة فاشل في التمثيل، مع أن هذا لم يكن حقيقيا.
استعدت هذه الذكرى بعد سنوات حين قرأت رواية “الشياطين” لدوستويفسكي، كانت إحدى شخصيات الرواية (الكابتن ليبيادكين) قد اندفعت إلى حجرة استقبال منزل لتصنع فضيحة ما: شخص يسعى إلى نوع رخيص من الابتزاز، يقدِّر بشكل مسبق الصاعقة التي ستهبط على رؤوس أهل المنزل، رعبهم من العار. كانت صدمته في الإشارة الهادئة المقتضبة التي سيطرت بها سيدة البيت (فرفارا بتروفنا) على الموقف. هبط بجسمه الثقيل في مقعد، وكان ما يحيره: كيف، وفي أي اتجاه، يحرك يديه؟ كان مثلي تماما في موقفه هذا. انفصلت ذراعاه عن جسده، بل عن إرادته، وأصبحتا على مسافة كأنهما ليستا له. كل حركة سيأتيها كانت ستعني شيئا ما، لم يعد واثقا منه، لم يعد موقنا بكونه “التعبير الصحيح”.
ثمة خطأ هنا، أو لنقل مصادرة، هي نفسها التي توحي لآخرين خطأ بأن للجسد لغة. حقيقة ما حدث معي – وكذلك ليبيادكين – أنه نوع من التشيؤ وفقدان المعنى. ليس لأن جسدي بلا خبرة، بل لأنني لم أحسن تمثل الموقف برمته، لم أصنع مجالا لذات، ببساطة لم أكن “مُحقّقا”. كنت أقرأ كلمات بتلوين صوتي فقط كمن يقرأ في جريدة. لقد تعطل جسدي كشهادة على ذات مخفقة في اكتشاف دورها، ومجالها الحي.

هناك من يتكلم عن الجسد الآن وكأنه اكتشاف. كأننا نستعيده من مارد كذاك الذي كان يسجن ضحاياه في كهف غائر، على أبوابه حراس كلبيون. لكن هؤلاء الحراس ليسوا فقط المنادين بالفضيلة، هم أيضا: الوعي، اللغة، مؤسسات المجتمع، السلطة، وكل المجال الحيوي ببساطة الذي يتولد المعنى من حوارنا معه. وهذا المجال الحيوي هو مجال إنساني بالتحديد، أي خاضع كليا للشرط الإنساني باعتبار الإنسان ذاتا منتجة للمعنى عبر علاقة، بل والأهم ذات لا تتعرف إلى نفسها إلا من خلال معنى يتولد في علاقة.
أثناء عرض مسرح حركي “تشرفتُ” بحضوره، ووسط جمهور من الطبقة المتوسطة الجديدة، تلك التي تقول “ووو” بدلا من “الله”، لم يكن سوى ديالوج بدائي يشير إلى جسد امرأة يعاني ثم يتحرر بطريقة بدت لي غاية في الابتذال. تخيلت يومذاك مصممي العرض في مؤتمر صحفي. يتكلمون بعبارات مبتورة تقطعها دائما كلمة (أكيد)، وبنوع من التأتأة المتعمدة كأنما ليُشهدوك كيف أن الكلمات ملوثة بالإرادة الواعية وصوت المؤسسة الاجتماعية، وأنها من ثم تعيد إنتاج السلطة، بينما التعبير العميق والطلق والحر هو تعبير الجسد. وتذكرت قول كلود ليفي شتراوس في حوار إن الفيزيائيين والكيميائيين سيقولون الكلمة الأخيرة عن الإنسان فبتعديل بسيط أكثر دقة ”سيعبر الجسد عن نفسه في النهاية من خلال الفيزياء والكيمياء“. لكن أية غنوصية هذه التي في سعيها إلى التأكيد على الجسد تنتهي إلى طرده نهائيا لينحل في معادلة مسبقة لا تلبث أن تتحول إلى هباء.
(العرض يقول كل شيء): أنا لست معنيا بتحليل هذا اللون من الأداء المسرحي، بل بالمصادرة الكامنة فيه، وبموقعها التاريخي من مجتمع قد يفتقر إلى القدرة على الكلام، أي كلام. طبعا يتواطأ جمهور الووو على ”مسكوت عنه“ آخر، وهو أن واضعي العرض فكروا فيه من خلال كلمات، أنه دائر في فلك أيديولوجيا سائدة، والتعبير الذي رأيناه على المسرح لم يكن ”لغة الجسد“ كما لو أن بإمكاننا أن نقطع رأسي العارضين، ويظل جسداهما مستمرين في الأداء، بصورة أكثر حرية وطلاقة.

أرى صلة بين هذه المعضلة وإحدى الأفكار المكونة لمفهوم الديمقراطية المعاصر، وهي التي تتلخص في أنه ”من حقي أن أعبر“ ومن ثم تعطي الموضوع بعدا سياسيا. لكن ”من حقي أن أعبر“ هذه رد على سؤال خاطئ. فليست قضية الجسد، ولا حتى اللسان، هو فقط أن يعبر، فمن وراء التعبير ثمة رغبة تسعى إلى الإشباع، رغبة مورِّطة، لأن موضوعوها الأعمق هو الطرف المقابل، “الآخر” الذي بالمنطق نفسه علينا أن نقر له بالحق في التعبير. الآخر المطروحة رغبتنا فيه أو عنه، ليس ”جنسيا“ فقط ولكن عبر مجمل أشكال الفاعلية الإنسانية في علاقة أي واحد بمحيطه من الآخرين.
لكننا حين نتخيل أي موقف بين جسدين يعبران فسوف تجبرنا نظرية التعبير هذه على رسم حدود لقائهما بشكل لا يتيح لهما أي تفاعل أو تلاق. إن حدود لقائهما هي رقصة جمالية تدور في دائرتين منفصلتين. والحقيقة أنه ما دام الأمر كذلك فالشكل الأفضل للتفاعل عمليا هو الكتابة، حيث تكون الأجساد منفصلة فعلا. لن أتحدث الآن عن الالتباس والتزييف في ”كتابة الجسد“، بل سأقفز مباشرة إلى حيث تكون مواقع التواصل، مثلا، هي الفرصة المثلى لهذا الاستعراض. حيث يمكن أن تكون أجسادنا الشبحية حاضرة في الصور والكلمات، لكن محمية تماما من أي تورط.
إن ما يحدث هو قمع للجسد بطريقة لم يسبق لها مثيل: تشييء له من حيث تسبغ عليه صفة الإطلاق. إن ”علينا أن نبتهج بأجسادنا“ هي العبارة التي تجعل من أجسادنا موضوعا، وهو في الواقع موضوع مثير للحزن. لم يعد الجسد، فقط، معادلا لـ”حقيقة“ تعبر عن نفسها بطريقة فضائحية (ضد السلطة، ضد المجتمع، ضد تراث اللغة…) الجسد ابتلع الذات، فبدا على هيئة حصن. وهذا ما يجعله مستنفرا ومتحفزا في وجه أي احتمال ملامسة.

.

حالة الاستثناء

.

مثلما هو مصطلح ”الحرب على الإرهاب“ كذا يبدو تعبير ”التحرش“، كلاهما يشير إلى واقعة حقيقية وكلاهما يحرف الموضوع عن مساره. بينما تسعى المصطلحات إلى تأطير نفسها بوضع قانوني، فإن غموضها إما أن يعطل الفكرة القانونية ذاتها ويجعلها مستحيلة، أو يوسع من مداها بحيث يبدو القانون مجرد استعارة أخلاقية ممطوطة تخفي الغاية والهدف.
يبدو ”التحرش“ في أحد معانيه المحتملة مجرد محاولة ”تقرب جسدي“ غير مرغوب فيه، لكنه في الواقع كثيرا ما يمتد إلى حدود الإهانة المتعمدة. ومع ذلك، أعتقد أن ما يتضمنه التحرش من إهانة هو كونه يطيع فرضية الجسد آنفة الذكر: يتعاطى مع جسد الآخر باعتباره موضوعا. ذلك أن فكرة ”الجسد المعبر عن ذاته“ تتجاهل سؤال التفاعل الذي بدونه لا يمكن أن يكون هناك تعبير ومن ثم تجعل الرغبة المتضمنة غامضة وعمياء، غير قابلة للتفسير ولا للتفاوض. تترك للجسد فقط احتمالا من اثنين – إما النرجسية وإما العنف – وكلاهما في الحقيقة هو الشيء نفسه.
هذا وحده يفسر استدعاء القانون: التعاقد الرسمي. يربط جيجك بين ما يسميه ”الغموض الأيديولوجي“ المحيط بمصطلح ”التحرش“ وبين تعاقد السوق: ”والتحرش هو كلمة أخرى من هذه الكلمات التي برغم ما يبدو من أنها تشير لحقيقة معرفة بوضوح، فهي تتوظف بطريقة غامضة جدا وتؤدي إلى غموض أيديولوجي، ما هو المنطق الداخلي للخطاب العادي المتعلق بالتحرش الجنس؟ الإغواء اللاسيمتري ذاته ـ عدم التوازن بين الرغبة وموضوعها ـ قد رفض. في كل مرحلة من العلاقة الإيروتيكية يبدو التبادل العقدي مع الاتفاق المشترك هو فقط المسموح له. بهذه الطريقة فالعلاقة الجنسية يتم نزع جنسانيتها، وتصبح صفقة بطريقة تبادل السوق للمكافئات…”
هناك شيء مبتذل ورخيص في تنامي دعاوى التحرش، في اتخاذها طابعا فضائحيا واحتفاليا كما حدث في حفل الـ”جولدن جلوب” مثلا. فالصفة المعاصرة للكينونة هي: أنت ضد ماذا؟ وكذا بالنسبة للجسد: هو في مواجهة من؟ إن الافتراض السائد هو أن الوسط المحيط بك عدائي ومتطلب. عليك أن تنتبه لرغباتك أنت، ولكن كيف تفصح هذه الرغبات عن نفسها في هذا الإطار التنافسي إلا من خلال القانون؟ هكذا يسقط الجسد فيما رفضه بالذات. في مشروع القانون الذي جرى الحديث عنه في السويد مؤخرا ثمة فقرات تتعلق بـ“لعق القضيب”. لنفرض إذا أن اتفاقا من هذا النوع جرى بالفعل فهل ينص مثلا على أن تكون العانة حليقة أو مشعرة؟ أن يكون القذف في الفم أو على الصدر؟

في الأدبيات، دائما ما اعتبر الحب، العلاقة الحميمة – مثلها مثل الفن، الثورة – خارج نطاق القانون. وهو موضوع جدل لدى النخبة بالذات، لكن يبدو أن السؤال يقتصر على كتابة الحب لا ممارسته. ففي كتابه “حالة الاستثناء” يجادل الإيطالي جورجو أجامبن، وإن في معرض مغاير، عن كون ما يسمى في القانون بـ“حالة الاستثناء” لتبرير العنف التأسيسي لسلطة الدولة، ليس من القانون في شيء، مبرهنا على الهوة بين القانون والواقع. يكتب أجامبن “إن إظهار القانون في صورته التي ليس لها علاقة بالحياة، والحياة في صورتها التي ليس لها علاقة بالقانون يعني فتح فضاء بينهما للفعل الإنساني الذي كان يُطالب يوما بأن يحمل اسم (سياسة).” وهذا مهم للغاية ليس على المستوى السياسي فحسب…
مناظرة أجامبن تنطلق من واقع ما بعد ١١ سبتمبر، وظهور حالات فاضحة من تعطيل الدولة للقانون تحت مزاعم ”الحرب على الإرهاب“. يرفض أجامبن حالة الاستثناء، باعتبارها احتيالا على تقنين ما هو خارج القانون، ولا يمكن أن يجد مرجعه فيه، مقتربا من ما يسميه فالتر بيامين بالعنف النقي. هنا أيضا مسألة أخرى: أليس غريبا أنه في الوقت نفسه الذي تتحرر فيه الدولة، فعليا، من القانون ملتجأة إلى ”الاستثناء“، أي إلى الاحتيال على التقنين الأصلي للسلطة، أن تسعى النخب الأكثر تحررية إلى استدعاء القانون؟ تعود النخب إلى الأعراف القانونية متجاهلة التغير التاريخي. ولهذا تتخذ ثورتها شكل المطالبة لا الفعل.
أليست مفارقة أنه بينما يستدعي الإنسان القانون في أكثر علاقاته حميمية، يتقبل كافة الاجراءات الاستثنائية للدولة، أو يقف أمامها كأنه لا يفهم أن النفي الأخلاقي والقانوني للعنف نهائيا هو ما يفتح باب العنف المنفلت تماما بلا أي غطاء. وهو ما نشهده فعليا في عملية تمثيل، غير مسبوق، بالجثث وعودة للعبودية بمعناها الحرفي، ناهيك عن عنف الدولة الخارج عن أي توصيف إنساني؟ في المجتمعات العربية، بالتحديد، لم تعد الدولة القومية تمثل المجتمع الذي انفتح واجدا ملاذه في إعادة تكوين الأطر الاجتماعية وفق أشكال ثقافية بدائية من الدين إلى العرق إلى الذكورية. وعلى المستوى الفردي تعمل سياسة ”امتلاك الجسد“ على مزيد من التفكيك.
ما يروَّج له فعليا، في هذا الإطار، هو  سياسة؛ سياسة الفرد حيال جسده، سياسة شخصية تستعيد المفاهيم السياسية في حدود مرجعها الدولتي لتعيد بناءها داخل الفرد كدولة مستقلة. كانت السياسة المولودة في كنف ”الدولة“ مبنية على السلام الداخلي والتحفظ تجاه الخارج. كل ألعاب المواربة والدعاية وحتى حدود العنف التي كانت تمارسها الدولة في سياستها الخارجية يستدعيها الأفراد الآن، أي: كيف تجسد مصلحة الأمان الداخلي من خلال التحفظ تجاه الخارج؟ كيف تكون جسدا قوميا؟

.

حكمة الحب

.

يسأل الواحد نفسه كيف تتشكل الرغبة في غياب موضوعها؟ هذا السؤال لا يمكن طرحه حين يُعتَبر الجسد ”مرجعَ“ الرغبة، إنها تكتسب منه غموضه وظلامه. الجسد آمر، وكل كلمة أو عبارة لا يمكن أن تفصح عن فحواه. لهذا أجده غريبا أن يقال إن ثمة أدب ”يحتفي“ بالجسد أو يرد إليه اعتباره. ففي هذا الزعم قناعة ليست ساذجة فحسب بل مناقضة لأساسها. لأنه بالمنطق الذي تصبح به اللغة فضلة إنسانية زائفة – خطابا، تأسيسا لرقابة اجتماعية من خلال قواعد الكلام، المهم: شيئا يستحسن إزالته أو على الأقل إهانته – فإن مرور الجسد، من خلال الأدب، يصبح خرافة لا معنى لها. لكنه في واقع الأمر يكشف الجانب غير المرئي من معركة مزعومة مع المجتمع مرة والسلطة أخرى، وهو أن المطلوب إفقار شرعيتهما فحسب، والاستحواذ على مجالات التعبير دون أن يكون ثمة ما يعبَّر عنه، بحيث يصبح الحماس لـ”كتابة الجسد” في حقيقته تعبيرا عن انقطاع الجسد في مجال الواقع عن أي اتصال أو تعبير.
يبدو لي أن الكتاب الذين يناهضون التحرش، دون أن يمتلكوا فكرة عن الحب أو الاتصال قادرة على تجاوز العنف ذاته، لديهم شعور عميق بالدونية تجاه الرغبة وما يمكن أن ينطوي عليه الفعل الجنسي من ظواهر. يتأففون من عنف المتحرشين “الشوارعية” بينما يحتفون بأغان “شعبية” تتغزل وكأنها تتوعد، ولا يعادون ما يعادونه من تجليات السلطة في المجتمع – تحفظ الطبقة المتوسطة وما فيه من قمع للجسد – إلا بقدر ما يعينهم ذلك العداء على إخفاء القاسم المشترك بينهم وبين ما يدعون مواجهته: العنف.
تتطوح السكاكين والسنج  في رقصات الأعراس الشعبية: حركات يختلط فيها التوله بالقتل. ثمة شيء حزين جدا في هذا الفرح، لا أعرف كيف لا ينتبهون إليه، حزين ومعذب. ولا يمكن أن يكون داعيا للحسد. ما تعد به الحفاوة المزدوجة بالجسد سواء أكان مرجعا أو خط مواجهة هو الحرمان. وهو حرمان ليس من قبيل التسامي، لذا لا يخلف إلا طفولة شائخة.

اعتبر الكتاب منذ التسعينيات أن أي فكرة قابلة للحياة هي بالضرورة خدعة. فالنصوص مثلها مثل كل شيء زائلة وعابرة. لقد اعتبر التأمل النظري  شيئا مثيرا للسخرية، كأنه تصديق ما لا يجب أن يصدق، جدية في موضع الهزل. كلمة ”تنظير“ كانت تختزل كل فكرة منظمة وتهينها في الوقت نفسه. لقد كان على اللغة، ولو قسرا، أن تجاري الجسد الفاني. وكم كان في ذلك تسييسا يمارسه القائلون بتجاوز السياسة!
انفجر هذا التسييس أثناء الثورة لكن بطريقة ملتبسة، أو بالأصح تكشف التباس كان متضمنا من قبل. اعتبرت أفعال البطولة الثورية متعلقة بالجسد أكثر من أي شيء. وهنا ظهر الجسد كميتافيزيقا ثورية. أنت ثوري بقدر ما تعرضت لأذى جسدي بالتحديد، وليس من حقك الكلام ما لم تكن ”هناك“. لكن إذا لم يكن المطلوب هو التغيير الفعلي، بشروطه التي تتجاوز التضحية الجسدية بكل تأكيد – بل لا ينبغي أن تكون التضحية على جدوله ولكن إحدى وسائله – فماذا  يبقى سوى التضحية بالجسد كفعل جمالي؟ هذا على أفضل تفسير. لكن يبدو لي أن التضحية لم تكن جمالا إلا بقدر ما اعتبر”الجمال“ فكرة مضادة للحقيقة. ويمكننا هنا أن نسمي الحقيقة باسم ”السلطة“ أيضا. الجمال هنا ليس رقصة استسلام لقانون الحياة المحايث لأشكالها (كما لو كنا نستحضر دولوز مثلا) بل رقصة للكيد والنكاية، بمعنى أنها تحافظ على ثنائية الجسد والمعنى، الجمال والحقيقة، الحرية والسلطة، وتتعيش من هذه الثنائية ومن استمرارها. لكن ألا يمكن أن يتحقق ”الجمال“ نفسه، لو كان الجمال هو المطلب فعلا، في فعل الحب؟ لماذا يختار فقط ”اللحظات الكبرى“ – ولماذا العنف والموت – ما دام عابرا إلى هذا الحد، لماذا يختار المسرح الكبير؟
تنحسر الثورة فينكشف عري الأجساد من المعنى والقيمة. وتظهر على منصات مواقع التواصل ملولة متحفزة. كما لو أنها أهينت بطريقة ما. تلتصق الأجساد بنفسها في فعل امتلاك، وسياسة مصغرة. الجسد الذي صعق بعصا كهربائية، والذي اكتشف نفسه عبر العنف والإهانة، لا يريد أن تريح رأسك على كتفه، لا يحتمل العلاقة البينية. إنه جسد يحن إلى أب غائب، ولهذا هو عاجز عن الحب. الثورة ”كمسرح“ كانت هذا الأب نفسه، أو بالأدق كانت فرصة لندائه واستدعائه: انظرْ ماذا فعلتُ!

في التفاتة إلى ليفيناس، الفيلسوف الفرنسي، يستعيد آلان فنكييلكرو في كتابه ”حكمة الحب“ دلالة الوجه الإنساني. لماذا الوجه؟ لأنه نقطة تقاطع الجسد بالمعنى، ونقطة النداء الموجه إليك من آخر، إنه حضور الآخر كمسؤولية. يكتب فنكييلكرو عن ما يحدث لدى أنصار العري الناطق، أنصار الجسد الذين يتصورون أن بإمكانهم التطابق معه: ”الفرد غارق في الكتلة، والوجه يكف عن الانفصال عن بقية الجسد، الشكل البشري يصبح مرصوصا ويتقدم دفعة واحدة.. وحتى أكثر من ذلك: فإن الجسد هو الذي يغزو الوجه… الكتلة جسد جماعي يبتلع الخصوصيات، والجسد كتلة عضوية تأكل الوجه“. ما يقوله فنكييلكرو يحدث فعلا. الجسد يزحف على الوجه بليله. وعزلته تمسح من الوجه كل التعابير الممكنة الدالة على ما هو خاص، كل ما هو دعوة أو سؤال، كل ما هو آني وعفوي ومغامر. الأهم: كل ما له معنى.

.

لقاء

.

المتمردون وأعداؤهم يفعلون الشيء نفسه وإن بطرق مختلفة. ”الأب الغائب“، الاستعراض الكبير الذي قوِّض، لا يجعل من الأجساد أخوة من حيث هي أبناء لذلك الأب. إنه يجعلها تتظاهر جميعا بحضوره فيها، بالاستغناء والإغواء في الوقت ذاته. تصبح الأجساد بلا تاريخ، يتجدد شباب الأب الشائخ كأن ثورة لم تقم عليه، ويتبني الأبناء المتمردون قضايا العنف والانتهاك دون انتباه إلى ما يجمع بينهما: اقتصاد الجسد. ومثلما كانت المطالب الثورية عدالة اجتماعية، أي توزيع معقول للملكية، فهنا أيضا تكون مطالبة بحد أدنى من احترام ملكية الجسد. لكن كما فشلت المطالبة الأولى تفشل الثانية وتستعاد فجأة فكرة بدائية ما أو ممارسة، ممارسة لا تفعل إلا أن تدمر بوحشية.
أمام وجه ميت، ماذا هناك سوى العنف؟ التعامل المهين مع جسد الآخر ليس إلا لأنه صار جسدا فحسب. والذين ينقضون على جسد ميت، كما يحدث الآن من قبل جماعات العنف، لتشويهه وتمزيقه، كأنما يتخلصون من شيء يعذبهم، أبعد كثيرا من المعتقد الذي يظنون انهم يحاربون من أجله. إنه اليأس من استعادته، واستعادة حياتهم فيه.

ما هو المخيف في عاهة؛ في ساق تعرج، أو شفة تهدلت قليلا ساحبة جانب الوجه إلى أسفل؟ أيهما ينظر إلى الآخر: العضو العاطل أم الذراع المتبقية، أو اللسان الذي يضرب جانب الفم ليقول لا ونعم؟ قد لا يكون هذا سؤالا، وإنما قصة حياة. بغض النظر عن الجانب العملي من قصة عاهة ما، فإن ثمة اعتقادا بأن العاهة تعوَّض بقوة إضافية مثلما هو حال ”إيجر“ بطل رواية ”حياة كاملة“ للنمساوي روبرت زيتالر. يبدو وكأن المعنى يريد أن ينتشر في أعضائنا، وحين يصاب أحدها بالعطب يتجمع الفائض في قبضة، في نوع من الجموح ربما، أو حتى في قرار يبدو وكأنه قدم ثقيلة ترفض المساعدة.
حين يقع إيجر في حب ماري فإن ما يلفت نظره حرق قديم في أعلى الظهر على هيئة هلال. بعد أن تموت ماري بسنوات، يظل هذا الهلال الملتهب، مع صوتها، هو ما يستبقيه إيجر. هو نفسه كان قد أصيب بعرج خفيف في إحدى ساقيه منذ الطفولة. في كهولته، بينما كان يعمل مرافقا للسياح الراغبين في رؤية القمم الجليدية، ينقذ إيجر امرأة مسنة من الموت. تشعر المرأة بألم خفيف في فخذها. يدور هذا الحوار (الآن يمكننا أن ننزل إلى الوادي ونحن نعرج إلى جانب بعضنا البعض. قال إيجر: ”بل كل واحد يعرج لوحده“ ونهض).
ليسوا رومانسسين هؤلاء الذي يحبون ”الجمال الناقص“. هذا تعبير غير دقيق أصلا. ما يراه صاحب العاهة باعتباره الجزء الموصول بالموت فيه، وكتلة العدم التي يحملها معه، هو بالنسبة لمحب بالذات الموضع الذي ينطلق منه الكلام. ما يحس به صاحب العاهة وكأنه صمت خال من المعنى، هو ما يراه محب ثرثرة أليفة لا تنتهي. العاهة هي الشيء الفريد والشائع. ذراع مشلولة هي لا شيء، أو هي كل ذراع. لكنها هنا بالذات في حضن جسد حي تبدو كأنها ترفع وجوده الفريد إلى مستوى الفضيحة.
لكن ما نريده الآن هو عدم الكشف عن عاهاتنا. نريد أن نُحَب من موضع الكمال، من موضع السيطرة الكاملة على الجسد. يقال: هذه أجساد خالية من الروح. هذا أيضا تعبير غير دقيق. يُستخدم تعبير ”الجثمان“ للجسد الميت، لكن الجسد يظل جسدا ما دام في نطاق المعنى. وهذا المعنى لا يتولد إلا من النقص المتتابع، ولا يتكشف إلا في جدل الخبرة والخسارات. حينما يفقد أحد العمال ذراعه، يدور حوار بين ”إيجر“ وزميل كهل: ”ما رأيكك هل ما يزال جرولرر الآن هو جرولرر؟ رفع إيجر كتفيه ورد عليه (ولم لا؟ ليس إلا جرولرر وإنما بذراع واحدة وفقط).”
 يحدث أحيانا العكس دون أن يختلف المعنى: “سأظهر عاهتي، ها هي قدمي العرجاء”. ثمة من يريد أن يشعرنا بالرعب، عاهته تبتلع الجسد كله، حيث يصبح الجسد مجرد فكرة مهينة ومخيفة. إن “أحبني” هنا تأتي بمعنى: اقطع ذراعك وتعال، وكأنك مُدان بسبب وجودك. التشويه الذي كان شيئا جدليا في علاقة الواحد بجسده، يصبح وكأنه قرار، وجه جامد، عازم على شيء يشبه الجريمة، وجه لا يعرف المغفرة.

يختتم كونديرا حديثه عن بورتريهات فرانيسيس بايكون (كتاب “لقاء”) واصفا حال الوقوع تحت طائلة رعب الجسد: أن نكون وحيدين بإزائه، أمام عرضيته، وكونه حادثة بلا معنى. يكتب: “ما الذي يتبقى لنا عندما ننحدر إلى هذا المستوى؟ الوجه. الوجه الذي يطمس (ذاك الكنز، تبر الذهب، تلك الجوهرة المخبوءة) التي هي (الأنا) الهشة للغاية والمرتعشة في حضن الجسد، الجسد الذي أركز عليه نظرتي كي أعثر فيه على سبب معقول كي أحيا، هذه (الحادثة المجردة من المعنى)، والتي هي الحياة”. لكن هل بإمكان “التركيز” أن يُكسب الجسد أي معنى؟ ممَ يتولد المعنى أصلا؟ يكتسب الجسد كل المعاني، بل والمفردات، من خلال التداول. لا توجد لفظة مقابلة للذراع الحقيقة، لا يعرف الجسد ما نسميه النضارة أو الشيخوخة.
إن اللحظة التي يشعر فيها إيجر بوخزة في قلبه بسبب ذلك الهلال الملتهب الملتصق بظهر ماري، هي اللحظة التي يبدأ فيها الكلام في استرسال كان مثيرا لدهشته هو نفسه. لقد ظل حياته كلها لا يحسن إلا النطق ببضع كلمات. ذاكرته اللغوية كانت بمثل بطء وثقل ساقه العرجاء، وإن لم يعن ذلك كونها بلا معنى. تبع هذا المشهد موقف ربما يبدو مبتذلا: إيجر يسير بجوار ماري ويريد أن يركل حجرا. بقدر ابتذال الموقف بقدر ما هو حقيقي. السعادة نفسها فائض يبحث عن جسد. لا يتخذ “الهلال” وضعا رمزيا، بل أبعد من ذلك. إن العاهة هي حافة بين المعنى والعدم، إنها موطن التضامن بسبب هذه الرهافة، ليس باعتبارها نقصا، بل بحيرة ساكنة حول ثرثرة قارب صغير.
متى ما صار الجسد موضوعنا، فإن بإمكاننا قطعا أن نكتشف ممكناته، لكن أي ممكنات؟ إن الجسد لدى كونديرا يُختزَل في التعبير المبطّن له. في رواية “الخلود” يتكشف ابتذال الأجساد المختصرة في مجموعة من الحركات والأداءت كأن الأجساد مجرد حضور شبحي، تطبيق عملي يوشك أن ينطفئ. الوحشة إزاء الجسد! نعم، من كونه عبئا لا نعرف أين نذهب به. ما يصيب وجوهنا بسبب من هذه العرضية هو شيء أشبه بالبلاهة التي أصابت الكابت ليبيادكين. الآن يشكل “الاستعراض” حلا وجوديا، أعني: تنتهي ملكيتنا للجسد نهائيا. يصبح على مسافة منا، مساوية تقريبا لمسافته عن نظرة الآخرين. ثم يتبدد كأنه لا شيء.

SaveSave

مهاب نصر: ملاحظات جديدة على موضوع الجسد

$
0
0

Bryan Costales, The Stampede San Francisco Animal Role-Players in the 2016 San Francisco Pride Parade. Source: bcx.news

هذه قصة من الممكن تجاهلها: ماذا لو كنتُ واحدا ممن تعرضوا للتحرش – في سن مبكرة جدا – من قبل الجنس الآخر؛ بما يُعد، بالمنطق السائد الآن، جريمتين مضفورتين معا، حيث يضاف إلى التحرش انتهاك الطفولة؟
أقول: بالمنطق السائد، لأن هذا “التحرش” المبكر أنضج وبسرعة حواسي كلها. وفي غياب أي فكرة عن الانتصاب في سن كهذه، كانت الرغبة كأنها تتوزع الجسم كله، وتبطنه بما يشبه غموض مادة تتخثر، هي مادة الروح ذاتها. رائحة عانة، هي ليست مجرد شيء بدائي، بل ما يترك الظهر عاريا ومكشوفا بلا طريق للعودة.
أتساءل الآن: لماذا لم يعتبر ما كانت تمارسه النساء أمام الأطفال كما شوهد في الفيلم التونسي الشهير “عصفور السطح” انتهاكا، ولا مبالاة إجرامية بمشاعر طفل وحواسه؟ أي نوع هنا من استفزاز الخيال المقموع أو السابق لأوانه؟ ولماذا اعتبر زمنا، كهذا الذي تدور فيه أحداث الفيلم، مثيرا للحنين لا الغثيان؟
ترى لو أننا قمنا بقلب فيلم “عصفور السطح” ليحكي قصة طفلة يتعرى أمامها الرجال  دون حرج ألم يكن ذلك ليعد جريمة مقززة؟
تتوفر رواية “حكايات حارتنا” لنجيب محفوظ، والتي تروى بلسان طفل، على سرد شديد الحيوية فيما يتعلق باستكشاف طفل لمشاعره الجنسية الأولى تجاه أجساد النساء في الحارة. وبالتواطؤ المعلن والصامت أحيانا – والمزاح المبطن للرغبات المبهمة، والمهيج لها أيضا – يترافق ذلك مع انكشاف العالم المحيط بالطفل. يقرن محفوظ بين غموض العالمين الجسدي والروحي المماثل للأشعار التي يتطوح معها أهل الله في التكايا ويرددها الطفل بلغتها الفارسية دون فهم معناها.
“أقترب من مجلسها فترمقني بنظرة باسمة وتقول: (وقعت يا بطل)، وتستلقي على بطنها وتقول لي (دلك لي ظهري). أشمر عن ساعدي، أدلك ظهرها بحماس ورضا، أشم رائحة جسد بشري معبق برائحة الصابون والقرنفل، وهي تتمتم (تسلم يداك)، ثم بمزاح (أنت عفريت من الجنة). ثم تضحك: (الكتكوت الفصيح يخرج من البيضة يصيح)، ويزداد حماسي في العمل، فتقول: (ارفع يديك يا شيطان، هل ستخبر أمك؟)… (كلا)… فتضحك وتقول: (وعارف أيضا أنه يوجد ما لا يقال).”
هنا تتصالح المرأة مع رغبة جنسية “غير متوازنة”، وتعشق جسدها بعيني رجل مستقبلي. بالطبع ثمة ظروف أشد تعقيدا يمكن أن تحيط بالمشهد كله. لكن التعاطي المختلف مع مشاهد كهذه يكشف عن حجم النفاق والانتهازية في دعاوى التحرش، وعن تكريس للوضع الذكوري المزعوم بشكل مقلوب.
غير أن ما أريد الإشارة إليه هو أن الجسد دائما ما “يُدفع” ليصير جسدا حقا (أي جسد إنساني). لا يحدث هذا تلقائيا أبدا، بل بممارسة نوع من التحرش والعنف المبكر هما ما يزجان به ليس في الفضاء الاجتماعي فحسب، بل في فضاء المعنى أيضا، بما يجعله موضوعا إشكاليا، موضوعا للنزاع على الدلالة، والتنازع في المكان. نحن دائما ننضج مبكرا عن موعدنا، لأننا لا ننضج أبدا من تلقاء أنفسنا.
من المؤسف أنه فيما يتعلق بقصة التحرش، بل وبحرية الجسد عموما وعصمته، أنها لا تأخذ في حسبانها إلا البشر “الناضجين”؛ كأنما ولدوا، رجالا ونساء، بلا تاريخ، وفي قلب المسؤولية الاجتماعية مباشرة. ولدوا في إطار قانون المدينة كمحميات طبيعية. وتستخدم الآن كل نفايات العتاد الفلسفي للحداثة المهزومة للتأكيد على نضج بلا أصل، لأن الغاية إفراد الواحد مع ذاته، دفعه بكل قوة إلى جسده وإلصاقه به في وحدة وجودية وقانونية.
يتحدث نوربرت إلياس، عالم الاجتماع الألماني، عن ما يسمية “الأنا الخالية من النحن”، مدينا تيارا متصلا من الأخطاء الفلسفية المتعلقة بتوصيف “الأنا” وفق نظرية معرفية تفضي حتما إلى طريق مأساوية: “إن الصورة الفلسفية لإنسان ساكن غير متبدل، موجود في حالة النضج، بدون أن يسبق أن كان طفلا، وتهميش هذه العملية التي يمر بها كل إنسان، هي حتما أحد الأسباب التي تؤدي إلى طريق مسدودة تقع فيها نظريات المعرفة الفلسفية دائما وتكرارا، ولا تجد لها منها مخرجا.”

هل هي “أخطاء” حقا؟ أم أن هذه الطريق المسدودة هي المطلب غير الواعي للحداثة الرأسمالية المستمرة إلى الآن؟

هذه الطريق المسدودة التي تأتي على شكل ملاك أو شيطان هي مدخل السياسة بمفهوما الحديث أيضا، باعتبارها “ضبطا” للرغبة مرة، وإطلاقا لها مرة أخرى بعد اعتبارها “نشاطا ذاتيا”: حلما يمكن أن تعثر عليه فوق رف في مجمع للتسوق. في الحالين ظل هناك ما يمكن اعتباره عنفا مضمرا. أو بتعبير آخر فإن ثمة مصادرة ينطوي عليها الفعل السياسي تقرن الرغبة بالعنف، وتجعلهما الشيء نفسه، بدل أن تفسرهما وتعيد توطينهما داخل الخبرة الإنسانية المشتركة.
إذا كان العنف (الذي يعد التحرش واحدا من وجوهه) يتمثل في التعدي على “محمية” الجسد، وفي اختراق حدودها، فلماذا يختزل في التحرش الجنسي؟ نحن في حاجة إلى مفهوم واضح لما يعد عنفا وتعديا في التعاطي مع الجسد. ما الذي يضمن أن تكون ضغطة مصافحة أو تربيتة على كتف نوعا من رفع الكلفة لا الإهانة؟ من له حق تأويل تعدي الجسد باعتباره عنفا، أو دعوة غير مرغوب فيها؟
نبهني أحد أقربائي، وكان بمثابة صديق لي، بينما أعلق يدي في ساعده، ونحن نقطع أحد شوارع أثينا (وكانت هذه هي المرة الأولى التي أغادر فيها وطني) أن ذلك التصرف سوف يفهم هنا بطريقة خاطئة. قالها بسحنة مرتبكة وهو يحل يدي من ساعده برفق.
سوء الفهم هو جزء أصيل من العلاقات الإنسانية، بما في ذلك التفاوت في تقبل الحرية الجنسية وطريقة الدعوة إليها، وهو الجانب الذي تقصيه قصة التحرش، وتلصقه سريعا بتاريخ اضطهاد للمرأة، لأنه بات من الواضح جدا العجز عن اكتشاف مفهوم للحرية أو الخصوصية إلا في إطار معركة، بالمضادة مع جهة ما. وهنا، كما أسلفت، يتدخل القانون والتعاقد اللاشخصي، وكأن ذلك يضمن حدودا آمنة للجسد. الأكثر أن هذه الصيغة في التعامل مع الجسد تمنحه صفة المطابقة لـ“الأنا”، وتتجاهل أنه بالنسبة للأنا ليس الجسد ملكا، ولا حتى بديهة واضحة.
سوف أضطر إلى استخدام نوع من المجاز حين أتكلم عن الجسد، مادامت لا توجد كلمة تقول الشيء نفسه في علاقتنا به. “الشرفة” مثلا، باعتباره ما يظهر من الذات للخارج، ما نتكئ على إفريزه لنواجه العالم، ما نقول به إننا هنا، وما يقال عنه “هو يبتسم لك، لكن لا تعرف ما يخفي بالداخل”.
الجسد، الذي هو موضوعنا الآن، يمثل تقريبا هذه الشرفة؛ ما يجب أن يُعتنى به، أن يحاط بأزهار وضحكات، أو ينهال منه السباب والقبضات المهددة. أن يبدو نتوءا ظاهرا ومنافسا في فضاء المدينة: برج المراقبة اللامبالي، ما ننسحب طاوين مصراعيه إلى الداخل بينما يظل في الوقت نفسه هناك.
ما يقال عن حرية الجسد أو الاستمتاع به يتعلق بهذه الشرفة تحديدا. ومن الصعب تصور ان يكون المقصود هو أن يستمتع الواحد بأمعائه مثلا. فما هو في الداخل غريب عنا غرابته عن الآخرين. نفترض وجوده لكننا نفترض أيضا أن يكون مبطنا لهذا الوجود في صمت تام. تجاه الجسد الداخلي نحن أطفال مرعوبون. وفي أفلام الرعب يتم الاعتماد على فكرة كهذه، ينهض الوحش من الداخل، من المهجور الذي اعتبرناه دائما لنا. هذا الجسد… جسد من؟
دانييل بناك في كتابه “مذكرات جسد” يضعنا أمام المسافة الافتراضية بين الأنا والجسد. المذكرات التي يفترض أن تكون بلسان طفل قرر أن يكتب عن جسده، جسده بالتحديد، تتضمن في واحد من مشاهدها الأولى الموقف أمام المرآة. وعلى خلاف الزعم بكون المرآة هي منشأ الهوية الموحدة للإنسان، فإن ما يحدث من مدون المذكرات الصغير هو حال من الإنكار: “نظرت إلى نفسي لأول مرة، بقيت مدة طويلة أمام المرآة. لم يكن الموجود داخل المرآة حقا أنا. كان ثمة جسدي لكن لم أكن أنا… بدأت أردد: أأنت أنا؟ أأنا هو أنت؟”
كان راوي المذكرات يتعرض بشكل مستمر للتعنيف والرفض من قبل أمه، وللمهانة من زملائه.
يمكن لكُتاب التنمية البشرية وأشباههم الآن أن ينصحوه بالطبع: أَحِب جسدك، تصالح معه… دعه يتفتح. وهي مسألة ممكنة بالتأكيد، ولكنها ليست مباشرة على الإطلاق. ما تقوله “مذكرات جسد” أننا لن نتطابق أبدا مع أجسادنا التي نتطلع إليها في مرآة. فما بين المرآة وبيننا عين “الآخر”، هذه العين هي المسؤولة أصلا عن شق هذه المسافة، وعن رؤية هذا القابع هناك باعتباره “أنا” وهي مفاجأة ليست دائما سارة. إن المرآة مسبوقة بعين الآخر وبوصاياه، مسبوقة بالحب والكره والإذعان والهجر الموجهين.
صحيح أن “الأنا” مضمومة في بيت جسد، ولا مكان آخر لها ما دمنا مثلا لا نؤمن بالروح، لكنها الرفيق العاق لهذا الجسد بسبب من قدرتها على رؤيته بالتحديد، بسبب من الهوة التي جعلتها تتعرف إليه وتسأل “أنا هو أنت؟” لأن هذا ما نقوله لأنفسنا أمام المرايا كل صباح، وليس من أجل كتابة مذكرات فقط.
الإرث الديني لقصة الخلق في ديانات التوحيد اعتبر هذه اللحظة (أأنا هو أنت؟) تأسيسية، وقرنها بالندم. أما نرسيس فتقترن قصته بالتدمير الذاتي. كلاهما يحكي قصة العنف: عنف الإنكار أو العشق الذاتي للجسد. لكن دانيال بناك في مذكراته يعيد الطرف الغائب في قصتي آدم ونرسيس: عين الآخر.
الخادمة فيوليت، على خلاف الأم التي ألصقت الطفل بجسده كقدر كريه، تتعهد صحاب المذكرات الذي يظل مدينا لها أبدا. هي لم توقظ حواسه بطعامها أو بروائح جسمها المختلطة. لقد استقرت بطريقة ما بينه وبين جسده فيما يشبه حفل تعارف.
“مسحت فيوليت الجرح، ولم أحس بأي شيء، لأنها أخذت تصرخ بدلا مني، كانت تصرخ صراخ ألم فعليا وكأنما يسلخونها حية. ذهلنا أنا وتيجو، ثم انتهى بنا المطاف إلى الضحك. ثم أحسست بعد ذلك على ركبتي برودة الكحول الذي يتبخر. تبخر معه جزء من الألم. قلت لفيوليت إن الأمر لن ينجح مع الساق الثانية لأني بت أعرفه. هل تراهن؟ هات الساق الثانية. هذه المرة أطلقت صيحة مغايرة، صيحة طائر حادة زعزعت طبلة أذني. النتيجة نفسها. لم أشعر بشيء. يسمى هذا يا صغيري الجسور بالتخدير السمعي.”
يسمح لنا “الآخر” بإمكان تمثيله، بنوع من تبادل الأدوار؛ حتى خبرة الألم لا تعود بعدها “لنا” بالكامل.
يمكننا الإفادة هنا من جان لابلانش (عالم النفس الفرنسي) في تحديده للحوافز الأولى للطفل باعتبارها “تمثيلا” لمؤثر خارجي من مجتمع البالغين ورسائله الجنسانية. الرغبة نفسها لا تنطلق من “الأعضاء الحساسة” كنداء مقموع، بل من موضعة ذاتية لمؤثر خارجي ملغز بالنسبة للطفل.
“إن الفتاة التي تمددت أمامي يوما، والتي تحدثت عنها في الفقرة الأولى، داعية إياي إلى لعب غامض كانت قد أوصدت النوافذ. ضوء خفيض يتسلل من النهار والصخب في الخارج. صمت ورائحة. هذا كل ما أتذكره.”
لقد أُهملت، فيما يشبه العمد، العلاقة الجدلية بين لحظتين: المؤثر الخارجي المرتبط برسائل البالغين المشفّرة، وإعادة تمثيلها فيما يسبق حتى اللاوعي. هناك “هوس” علمي وأخلاقي في محاولة تحويل اللاوعي إلى لغة، لغة بدئية تشكل بها اللاوعي نفسه فيما يشبه الطفرة. هناك عناد مَرضيّ من أجل إفراد الإنسان مع ذاته، أو ما يسمى “قدره”. ثمة كراهية عميقة للغموض المحيط بالتجربة الإنسانية. وكأنه إثم أو عار.
من الطبيعي أن ينتهي ذلك بالتشديد على “الأنا” حد التأليه أو الاحتقار. وأن يستفيد من ذلك مروجو فكرة “اصنع لنفسك حكاية”، حيث تصبح الحكاية مجرد قوة، حصانة، نوع من مضاعفة “الأنا” غير المثبتة أصلا. هذا الإرث المريض ليس أمامه سوى العنف أو الخضوع للـ“صوابية” السياسية والقانونية المتعارف عليها الآن.
حين تموت فيوليت يدون الطفل في كراسات مذكراته جملة واحدة يكررها بلا توقف: “ماتت فيوليت”. هذا خرق للتعهد بأن تكون المذكرات قصة جسد. وهو ما يبرره بكلمات أخرى: “في الواقع ماتت فيوليت. وبالنسبة إلى الطفل الذي كنته ما كان ينبغي لها أن تموت. كانت تحت حمايتي، أفهمتِ؟ ذاك أن القوة كلها التي نهلتها من قوتها الهرمة جعلتني منطقيا حاميها.” لا تعني “الحماية” هنا وهما عن بسط النفوذ على جسد آخر، بل تعني أن هذا الجسد نفسه أصبح جزءا من الذات حقيقة لا وهما، وموته هو خبرة فاصلة، لأننا لا نكاد نعرف ما الذي مات فعلا. “ماتت فيوليت” ليس سردا، بل إثبات لعجز السرد، إثبات ناضج ومسؤول أمام تعقيد الخبرة الإنسانية. يكتب دانييل بناك على لسان بطله: “قررت الكتابة إلى أن تخور قواي. وإذا ما نظرنا إلى الأمر انطلاقا من شكل خطوطي أقول إنه كان قرارا هادئا، ففيوليت كانت قد ماتت، وخطي كان قد نضج تماما.”
لكن بالعودة إلى صورة “الشرفة” كاستعارة للجسد، فإن ما يحدث الآن هو “ابق في شرفت… التصق بها” حيث تختزل الأنا في الجسد، في المرئيّ والمكشوف وما يخضع للقانون بالطبع. نريد الالتصاق بالشرفة طوال الوقت، وهو ما يزيد الخوف من الداخل. نريد أن نُعرف من مكان القوة. وكلما التصقنا بالجسد صار هذا الجسد أكثر حساسية، لأن الذي يشاركنا فيه إنما يشاركنا فيما نعرفه، ونعرف أيضا أنه مسنود على ليل داخلي مهمل.

لقد غادرنا غرفنا الداخلية كصحراء، ونخشى أن من يقبض على الجسد سيكتشف فيه طعم الرمل.

نحن مرعوبون من الهجر، مرعوبون من أجسادنا بعد أن أفرغناها من الـ“نحن”. استدعاء القانون هو نوع من قطع الطريق على حنين لا يزال موجودا لكنه يعبر عن نفسه بطريقة خاطئة، لأنه يتصور نفسه “أصلا” عادة نفسية سيئة لابد من بترها، كذبة تاريخية يجب الاعتراف بسذاجتها. لا يختلف هذا الحنين المستحيل عن الأصل الديني أو الأسطوري المأساوي ولو اتخذ صورة عصرية: آدم أو نارسيس.
وهنا تحدث مفارقة غاية في الغرابة. إن الجنس نفسه يتحول إلى عنف محض، أو رغبة في عنف محض. في أفلام البورنو الـ BDSM لم يعد الأمر يتعلق بممارسة جنس عنيف بل عمليات تعذيب لا يتخللها أي فعل جنسي. الرغبة الجنسية تحولت إلى غريزة قتل وموت خالصين. الأعضاء الحساسة يتم تعذيبها بوحشية حتى إسالة الدماء. الجسد يريد التخلص من نفسه، إلى كومة مستخدمة من اللحم. ما تخفيه وتزيفه دعاوى “ملكية” الجسد هو الحطام والعاجز عن بث الحياة.
لقد كانت الأوضاع الجديدة التي وجد الإنسان نفسه فيها نفسه: نهاية دولة “الرفاه” ومعها الدولة الموجهة: دولة المشروع؛ سيولة سوق العمل، حركة التنقل غير المسبوقة، وسائل اتصال فائقة، ارتفاع معدلات التعليم، الكثافة السكانية المتنامية… إلخ كلها وغيرها تنذر، على عكس ما تبشر به العولمة، بتضاعف سوء الفهم. تخلخلت مؤسسات الهوية، لكن هذا لم ينه الهوية نفسها كفكرة معلقة تنتظر من يتلقفها: الجسد كهوية، المهنة كهوية، الجماعة العرقية، الجندر…
الإله الغائب عاد من باب خلفي في صورة آلهة متعددة. وكما ألمح جيجك لم تعد الأيديولوجيا نظام الأفكار الذي يتبناه الناس عن غير وعي ضد مصالحهم. بل صارت “مصالحهم” نفسها التي حُدِّدت مسبقا وفق سوق العمل وقوانينه هي الأيديولوجيا. الأيديولوجيا تتخلل أو تبطن الفعل باعتباره الفعل الصحيح، تماما كالصوابية السياسية.
وفي التصاقهم بهويات مصنوعة، في رفضهم للتجربة التاريخية، يفقد البشر كل الإرث التاريخي وخبراته. هذه هي التفاهة.
التفاهة التي تمثلت في “يمكنك البدء من جديد”، لكن من أين؟ من يقين هش، هم عاجزون حتى عن مواجهته، ليس أمامهم إلا أن “يمثلوه”. وهنا أيضا القسوة: أنه تمثيل يشبه قناعا التصق بالوجه، وما عاد بالإمكان انتزاعه، لقد ابتلع الوجه نفسه. “الجسد” صار قناعا للجسد، هذه مضاعفة مرعبة، تماما مثل الوحشية اليائسة التي نستيقظ على أخبارها كل صباح.
نحن لا نواجه اليوم “العنف” بل التفاهة. التفاهة هي بذرة العنف، ومن مصلحتها أن تجعل العنف “أصلا” لتتدخل هي على هيئة قانون حضاري أو “حضارة قانونية”… مثل فقاعة توشك أن تنفجر.

SaveSaveSaveSaveSaveSave


دينا ربيع: فصل في العذراء التي في عقلها شيء‎

$
0
0

Mona Hatoum, Coiffure Dame (Kairouan), 2001-02. Source: alexanderandbonin.com

كانت المرأة لا تحبّذ أحاديث الهوى لما تحويه من مساخرَ وقلة تهذيب، يغفر لها ما شابت عليه من عرف، بتولا لم يمسسها إنس ولا جان. وكانت تمقت المحبين وتشمئزّ من سيرة الحب، إن حدّثتها عن عاشق أثارت غثيانك نظرتها الأخلاقية العاتبة، كأن عينيها الثاقبتين ترى عورة جسدك وروحك من تحت الثياب والوقار.
إذا كان العاشق كهلا، قالت: “شوفي يا أختي الرجل العايب”، وإذا كان شابا سلّت له عصا كلام العيب والحرام ووجهت إليه اتهامات حب السفالة والمسخرة: “ما أنت عينك منها يا وسخ”، كأن التبتّل الذي فرضته على نفسها أُنزل على الخلق أجمعين، وإلا صاروا عندها شهوانيين، وهذا لا تقبله؛ لا يعارضها في ذلك جسدها الذي بردت نيرانه وولّت فوراته إن كانت له فورات.
كانت السيّدة تفيق منتصفَ الليل على مواء القطط الشهوانية في الشارع، فتسبّها بصوت يسمعه كل من في الشارع، ثم تصبّ عليها الماء البارد في ليالي الشتاء: “عشان يهدوا كدا ويبطلوا زنّ”.
ربّت السيدة فتيات الحي على منهجها الرصين، وكاد يقتلها – فعلا لا قولا – فعل البنت التي شطّت عن رهبانيّتها وصاحبت رجلا كانت تضاجعه ويضاجعها كفعل الرجل وزوجه تماما تماما غير أنه بغير زواج. تكاد السيدة أن تنجلط كلما نتفت المارقة شعر إبطها أو حاجبها، أو حلقت من عانتها، أو حتى غسلت بدنها بالماء. تارة تقول إنها “لسّه صغيرة ع الحاجات دي”، وتارة تصبّ عليها أبشع الألفاظ إذا فعلت فعلتها تأهبا للقاء الرجل إياه.
كانت فكرة أن البنت تفعل معه ما تفعل خارقة لطاقة احتمال المرأة، وعندما فشل السبّ وتكسير المجاديف مع هذه “الشحطة” التي ليس لها عليها كلمة ولا حكم -“كانت عاوزة راجل يقطم رقبتها”- أصبحت تكتفي بقراءة القرآن حتى ترجع البنت من النكحة المباركة، تشهد الله عليها وتتبرأ من نجاستها وتدعو لها بالهداية، والبنت لا يليتها من هذا شيئا غير أنها تتكيّف ولا يشغل قهر المرأة من بالها، بل زاد أنها كانت تتمشّى عريانة بين العنابر بعد الاغتسال، تراها المرأة وتلعن جسدها الغثّ المقفع: “أمّال لو كنتِ حلوة شوية كنتِ عملتِ إيه، استري نفسك يا معفّنة”.
كبر إحساس القرف من الجسد عند بنات أخريات آثرن السلامة مع العجوز العاتبة، فكن يكتفين بلمس بظورهن في الظلام بسرعة والهمس إذا ما سمحت لهن أن يغلقن أبواب العنابر عليهن بغير أن تسمّم أبدانهن العفنة الآثمة باتهامات الوساخة والتخفي من أمر معيب وراء الأبواب… يسرقن لحظة انبساط في ستر الليل إذا واتاهن الحظّ ولم ينفتح الباب عليهن فجأة بغير استئذان لا يحقّ لهنّ في كبسة بوليسية أليفة.

SaveSave

SaveSave

SaveSave

مينا ناجي: لماذا لا أحب أوسكار

$
0
0

Stanley Llewellyn Wood’s illustration of Doctor Nikola by Guy Newell Boothby. Source: British Library app

.

الحالة الغريبة لليندا صرصور

.

ليندا صرصور هي نسوية معروفة ذات توجهات إسلاميّة تعيش في أمريكا، ومن منظمي مسيرة النساء الشهيرة بعد فوز دونالد ترامب بمقعد الرئاسة. في نهاية العام الماضي، وفي سياق حملات الكشف عن الانتهاكات الجنسيّة، خرجت موظفة سابقة في “منظمة الأمريكان العرب” التي تديرها صرصور تدعى أسمى فتح الباب لتعلن عن قصة تحرش جنسي واستخدام نفوذ متكاملة الأبعاد وتقول إن زميلاً لها في العمل تحرش بها أكثر من مرّة، وحين أبلغت مديرتها صرصور، اتهمتها الأخيرة بالكذب وقالت إن شيئاً كهذا لا يحدث لواحدة (سمينة) مثلها. وحين ذهبت لرئيسها، غضبت صرصور وطردتها من العمل وتوعدت بأن تمنعها من العمل مرة أخرى في أي مكان آخر في ولاية نيويورك، وهو بحسب أسمى ما حدث بالفعل.
وبغض النظر عن صحّة القصة، يبرز سؤال حول غياب أي رد فعل تجاه صرصور، ومرور اتهامات مطابقة للحقيقة في سياق الحملات الحاليّة كأنها لم تكن، رغم اكتمال نصاب كل التعديات والانتهاكات التي تتم مُحاربتها من تحرش وتكتم واستهداف للضحايا واستخدام النفوذ. ولم تدمر القصة مستقبل صرصور المهني مثلما دمرت قصة مماثلة مستقبل عشرات الأسماء من الذكور بسبب اتهامات أخف وطأة من المطروح ها هنا.

.

الرجل الجيد هو الرجل المخصي

.

في مونولوج الافتتاح لحفل الأوسكارز هذا العام، يقول المذيع والكوميديان جيمي كيميل نصف مازح: “أوسكار هو الرجل الأكثر حباً واحتراماً في هوليوود وهنالك سبب جيد جدا لذلك، فقط انظر إليه [يشير إلى التمثال الذهبي الضخم بجانبه على المسرح]، إنه يضع يديه حيث تستطيع أن تراهما، لا يقول أبداً كلمة خارجة، والأكثر أهميّة أنه ليس لديه قضيب على الإطلاق.” يصفق الحضور ويضحكون. يكمل كيميل: “إنه حرفياً تمثال الحدود، وهذا هو نوع الرجال الذي نحتاجه أكثر في هذه البلدة”.
تلك المُزحة التي ألقاها كيميل ربما تشير إلى المنطق الضمني المسكوت عنه الذي يحرِّك الخطاب النسوي المهيمن الحالي، والذي أصبح يخرج إلى السطح أكثر وأكثر بصور مُختلفة. فكثير من تحركاته الخطابيّة والعمليّة تصل في النهاية إلى موقف هو على غرار “الهندي الجيد هو الهندي الميت”، حيث الموقع السليم أو الحيادي الوحيد للرجل هو  ألا يكون رجلاً، أو لا يكون له قضيب (رغبة جنسية) مثل العم أوسكار.
يمكن ربط ذلك بتزايد أعداد الشباب الذين يعلنون على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة اعتذارهم عن كونهم ذكوراً، ويكتبون في صيغة اعتراف عن شعورهم بالخزي والعار لذلك. ربما بسبب تنشئتي الكاثوليكيّة، كان هناك شيء مألوف في تلك الاعترافات، سرعان ما تكشّف عن بنية الشعور بالذنب بسبب خطيئة لم تقترف بشكل شخصي، خطيئة أصلية عامة لا مهرب منها كامنة في الوجود (كرجل) و الوجود ذاته، لا يتم الخلاص منها إلا بالتطهر وجحدها باستمرار بشكل علني.
في الحقيقة، هناك سبب آخر لكون هذا الموقف التطهري مألوفاً، فالخطاب الذكوري البطريركي الفج من ناحيته يرى المرأة المثالية هي المرأة منزوعة الرغبة (ويتم جراء ذلك نزع مادي لجزء من العضو المعني متمثلاً في الختان) وهي دوماً في موقع الخاطئ والموصوم مهما فعلت أو بسبب أنها فعلت – تماماً مثل الذكر في الخطاب النسوي الحالي – ولحل تلك الخطيئة يتم إخفاء جسدها بالكامل (بالنقاب مثلاً).
ليس هذا المنطق الذي يبرز إلى السطح – أو “المركزية القضيبية” المعكوسة – بجديد، فقد حضر في الأصوات الراديكاليّة من الخطابات النسوية منذ الستينيات والسبعينات، التي ترى الفعل الجنسي بين رجل وامرأة في حد ذاته مُهيناً وسُلطوياً؛ فيه يسيطر الذكر على الأنثى ويخضعها ويخترقها، ولذلك فالحل هو الاتجاه إلى السحاق حيث لا يوجد قضيب وما يصاحبه من سيادة ذكورية وامتهان للمرأة. لم يلق هذا التوجه رواجاً في فترة الانفتاح الجنسي، الذي كان يسعى إلى المزيد من التحرر لا الحدود، ومزيد من أنسنة الفعل الجنسي لا تجريمه ووصمه.
لكن الأمور تغيرت ويبدو أن هذا المنطق قد دخل من الشباك الخلفي ليهيمن على الخطاب العام للنسوية لأسباب عديدة ومتشابكة. وكان الحدس به والإعلان عن حضوره الخطر هو النقطة الأساسية في البيان الفرنسي الذي كتبه نسويات فرنسيات وأثار الكثير من الجدل، أي النزعة التطهريّة المحافظة التي تساوي بشكل ضمني بين إعلان الرغبة (الذكورية) والجرم الأخلاقي، وبالتالي تتبنى مفهوم الذنب كمولِّد أساسي لزخم وقوة الخطاب والذي ينتهي دوماً إلى كراهية تصل إلى كل الأطراف.
ولذلك لا يوجد غرابة في المقارنة المتكررة بين حملات فضح ومقاومة التحرش والاغتصاب (والتي لابد من التأكيد على أهميتها وضرورتها المبدئيّة) وبين محاكم التفتيش الدينية ومطاردة الساحرات.

.

 جوة وبرة

.
يشير مهابنصر في مقال له إلى الهشاشة المُطلقة لمفهوم الجسد الحالي، وكيفية التعامل معه في المجال العام كقلعة الكينونة ووجودها المحض، الأمر الذي يؤدي إلى التعامل مع أقل احتكاك خارجي من قِبل الآخر بصفته تعدياً وانتهاكاً. ربما ساعد على ذلك هيمنة المجال الافتراضي للعلاقات الإنسانية التي تستبعد الحضور الجسدي وتسهل عملية تجنب الآخر من ناحية، ومن ناحية أخرى تؤّزم المجال العام في سياق نيو-ليبرالي يسعى باستمرار إلى خصخصة العام و“تجوين” internalization of البراني، تلك الحركة التي يمكن إدراكها بوضوح في المخيال المهيمن على مجالات التخطيط العمراني والتقسيم السكاني في العقود الأخيرة بدواعي أمنيّة وخدميّة كتقسيم بايو-جغرافي بين الطبقات والفئات.
صاحب أيضاً صعود تفكك المجال العام وتجزيئه – مع تزايد العنف – شكل من أشكال التهجين البيتي domestication، أي تحويل الخارج/المجال العام، إلى الداخل/البيت في مرحلة تالية تاريخياً للتحرك النسوي نحو إدماج قيم أنثوية في أماكن العمل والفضاءات العامة، بعد خروج المرأة إلى المجال العام وكسر حصارها في دور التربية وأعمال البيت، وهو ما يعني إدخال قيم مثل التعاون في مقابل التنافس، الانفتاح على الآخر في مقابل السيطرة، التنظيم الأفقي في مقابل الهيراركية الرأسية إلخ.. وهوإنسانياً أمر إيجابي ولا يمكن الاكتفاء منه، لكن ما يحدث حالياً ليس تدعيم المجال العام بقيم وتوازنات أنثوية بل تحويل المجال العام نفسه إلى مجال منزلي، يستبعد ما يجعل مساحة الحياة العامة مختلفة عن حياة الأسرة.
فقد كان من نتائج تحويل طبيعة المجال برمته جلب مفهوم المحارم إلى كل تفاعل بين الجنسين بشكل مقنّع. وفقاً لهذا المفهوم يعد وجود الرغبة الجنسية والتعبير عنها من قِبَل الرجل أمراً مداناً بذاته، كونه انتهاكاً لتحريم مقدس وفعلاً يستحق الفضح والتشهير كأخ يشتهي أخته أو ابن أمه ويراودها عن نفسها. لكن ما يفتقده المجال العام تحديداً هو ميثاق الدم الذي يربط بين أفراد الأسرة، وللشعور بفقدان هذا العقد التأسيسي يتم التعويض عنه بسعار تقنين العلاقات وجعلها مكتوبة ومثبتة، لتخضع تفاصيل متناهية الصغر إلى نسق قانوني.
لقد تم استدعاء البيت إلى حيث تُحمى القلعة الهشة للذات في جوانيّة افتراضيّة لكن دون فائدة، فقط يتم في يأس تغذية هوس الإدانة والمطاردة المستعرة لإخصاء كل بارقة خطر تلوح.

.

عودة المكبوت

.
كتبت نسوية مصرية معروفة منشوراً على موقع فيسبوك تقول فيه كحل لمشكلة حضانة الأبناء في حالات الانفصال: “ارموا عيالكم”، هكذا كتبتها؛ طارحة هجر الأبناء كحل نهائية للقضية التي ناضل التيار النسوي طويلاً حتى تحصل المرأة على حقوق قانونية ومجتمعية في الحضانة. ليس من الصعوبة رؤية عنف المنطق الذي يقف وراء هذا الحل، أي قطع الذراع الذي يؤلم، قطع أوصال العلاقة الغريزية التي تجمع أماً وأبنائها. فالذات المعاصرة مكتفية بذاتها ولا تلقي بالاً لما هو آخر (بما فيه الأبناء) إلا كعوائق للتحرر وحمولة فائضة تثقل غايتيْ الخفة والإشباع.
لكن الأهم أن هذا المنطق هو بالضبط تبني المفهوم للذكوري، وهو في قلب تماهي الكثير من الخطابات النسوية مع فجاجته وعنفه، بما يتضمنه من تبني مفهوم “الضعف” و”الاحتياج ” إلى الآخر كعار، والفجاجة والتوحش كتفوق وقوة. ما تقوله تلك الخطابات في الحقيقة، موجهة حديثها للذكوريين، هو: “لستم رجالاً بما يكفي ولا أقوياء بما يكفي، نحن رجال أكثر منكم ولا نحتاج إليكم، بل نحن من يجب أن يكون لهن السيادة”. لا تنحصر التباسات تلك الخطابات في مساواة القوة والعنف مع الجنس الآخر، ومن ثم تبنيها واستبطانها، بل الفهم الخاطئ لمفاهيم إنسانية عن العلاقة مع الآخر بما تحويه من احتياج وتضامن وتعاضد.
هكذا يعد تسرب المفهوم الذكوري البطريركي إلى الخطابات النسوية نفسها شكلاً من أشكال عودة المكبوت. وهناك مظاهر أخرى أكثر ضراوة؛ فبعد إقصاء مفهوم الرجل بصفته رجلاً، وفهم الذكورة مثل الأنوثة كمفهوم إيجابي وتكاملي، مع نفي أي ذكورة من الرجل كتهديد خطر، يرجع ما قد أقصي وكبت لا بنفس الصورة بل في أشكال أعنف وأحد. ويمكن فهم ظواهر الشخصيات شبه الافتراضية مثل دان بلزيريان وترافرز بينون بما تمثله تلك الفئة، التي تكتسب شعبية كل لحظة (متابعين بلزيران على موقع انستجرام فقط  تخطوا الـ٢٣ مليوناً) من تمثيل الرغبات العارية للسيادة الذكورية وفكرة الرجل “الألفا” في أقصى صورها فجاجة وكاركاتوريّة؛ العنف المفرط وانعدام العاطفة والقوة الرهيبة والامتهان الأكثر وضاعة للمرأة. وهي أمور يتم هندستها بعناية في كل صورة وفيديو وتصريح، بل وكتابة سيرة ذاتية مُتخيّلة لتقديم تلك الشخصيات.
يمكن متابعة الإعجاب بتلك التمثلات للقوة والسيادة من قبل إناث (يتبنين الخطابات النسوية) بشكل علني، واللهاث من قبل فئات أقل وعياً وراء شخصيات سينمائية تعبر عن الذكر القوي أو الصايع يؤديها تامر حسني ومحمد رمضان وأحمد السقا، بل ويمكن قراءة إحصائيات الشباب والشابات من مختلف بلاد العالم في الأعوام الماضية للنظير الموازي لتلك الظاهرة، مضافا إليها بشاعة العنف في تنظيم داعش، فيكاد يكون هناك تطابق بين فكرة الاحتفاء بالسلاح والقوة وتعاطي المخدرات والتعامل مع الإناث كمحظيات وعبدات جنسيات يخضعن للرجل القوي المحارب. هذا كله مع تصاعد ظاهرة الممارسات السادو-مازوخية وألعاب العبودية والاغتصاب المتخيل والمُمثل في خلط بين العنف والأمان والعنف والحميميّة: التخلي التام عن قلعة الجسد لصالح الآخر، لعبور تلك الهوة التي لا تُعبر، وللتخلص من الهشاشة ورعبها، والاحتياج العميق للآخر الغائب والمقموع. وفي النهاية بالطبع لا تصل كل تلك الظواهرالعنيفة بالذات المعاصرة إلى الإشباع أو التحقق أو السكينة.
وهنا تبرز على الجانب الآخر من الطيف ظواهر البحث عن الحميمية والتواصل مع آخر غير الآخر الذي فشل في الحفاظ على ثباته وحضوره، مع الآخر الحيواني من تربية القطط والكلاب وغيرها كشريك أو كذرية وأنسنتهم (التعامل معهم كبشر)، ومع الآخر “الجماد” من الدخول في علاقات عاطفية وجنسية مع عرائس من السيليكون وروبوتات ذات ذكاء اصطناعي، وهي الصناعة التي تزداد رواجاً وازدهاراً في الوقت الذي يصل فيه تعداد البشرية إلى حوالي ٧,٦ مليار نسمة، وهو الرقم الذي فكرت فيه كثيراً حين رأيت هذا المنتج.
ما تقدمه تلك العلاقات هو تعويض يائس عن الحميميّة الغائبة، محاكاة ساخرة ومريرة للتواصل مع آخر ليس مهدداً ولا خطراً ولا منتهكاً لأنه ليس آخر بالفعل؛ آخر دون إرادة خاصة ولا تفكير غامض ولا مبادرات غير متوقعة أو مطلوبة. ربما كان هذا وحده كافياً لمراجعة التفكير في تنظيم العلاقات الإنسانية، التي تدخل في موقف غير مسبوق من تكاثر عدد الأفراد وسهولة التواصل بينهم والعزوف عن ذلك في نفس الوقت.

.

نسوية لها دور

.

إذا كان الخطاب النسوي الحالي يسعى إلى مزيد من العدالة والأمان والإشباع في العلاقات الإنسانية، فعليه أن يكون مهموماً بإدخال تلك المفاهيم بشكل ناضج وواع في سؤال التواصل والتعبير عن المشاعر والأحاسيس والرغبات تجاه الآخر، في عالم تتأزم فيه العلاقات وتنحل أكثر فأكثر، مستدعية بذلك المزيد من العنف والكراهية والحلول الانعزاليّة اليائسة. وهناك عبء إضافي لتحقيق ذلك في عالمنا العربي الذي يحظى بتشوهات أعمق وتحديات أصعب، بداية من الازدواجية العامة والخاصة التي ترى العلاقات العاطفية محرَّمة رسمياً ومقبولة عملياً، بما ينتج عنه من تغييم يصم أي تقرب بالتحرش وأي اشتهاء بالدونيّة ويعتبر الحب إهانة وانحطاطاً، ولا أجد مثالا على ذلك خيرا من إجابة إحدى الشخصيات النسائيّة المصريّة الشهيرة على موقع تويتر مؤخراً، حين سألها أحد المتابعين إذا كان من اللائق أن يقول لزميلته في العمل إن تصفيفة شعرها أنيقة أو فستانها جميل، فكان ردها أن هذا يعتبر تحرشاً إذا لم يكونا في علاقة عاطفية.
بجانب كل مشاكل التمييز الجنسي الحقيقيّة والمترسّخة في بلادنا، فالمشكلة الحيويّة التي يتم تجاهلها باستمرار هي محاربة المنطق المحافظ الذي يتهم ويصم أي مبادرة بالتواصل بين الجنسين بأنها خطر على الأخلاق ومهددة للسلامة، وهي النتيجة الطبيعيّة لخطابات نسوية فائقة الحساسيّة وانتقاميّة في مضمونها، حيث يُرهَب أولئك الذي يأخذون خطوات خارج السائد في مجازفة نحو علاقات إنسانية وعاطفية أو في محاولة تأسيس وتثبيت قواعد يتعاملون من خلالها. فيتم تدمير هذه الخطوات الصغيرة في سبيل التحرر والتطور عن طريق كماشة يمسك طرفيها فريقان نقيضان: “كل مُفصحة عاهرة، وكل مُفصح متحرش.” ولا سياق أو قواعد تحمي أيهما.

SaveSaveSaveSave

SaveSave

SaveSave

SaveSave

SaveSaveSaveSave

SaveSave

SaveSaveSaveSaveSaveSave

عزيزة وعبده: مهاب نصر عن التحريم والجسد والسياسة

$
0
0

Lalla Essaydi, Les Femmes du Moroc: Harem Beauty 1. Source: lallaessaydi.com

اخترت هذا العنوان ليس لأنه يحكي قصة حقيقية، بل هو يشبه أحد عناوين القصص التي قدمها إليّ منذ سنوات بائع كتب قديمة، أقرب إلى أن يكون صديقا. بادرني: “شوف ده”. كان كشكولا عاديا، لكن على غلافه رسما يدويا بدائيا، وثمة عنوان كبير يقطع الغلاف على هيئة هلال بالقلم الجاف الأزرق “عزيزة وعبده”. الرسم لامرأة مملتئة الشفتين ذات نهدين بارزين، ورجل في أسفل الغلاف. قصة جنسية طويلة كتبت بخط اليد.كان واضحا من الأسلوب والمفردات، رغم فصاحتها أحيانا، أنها ليست منقولة أو مترجمة. خيال شعبي خالص بنفس ريفي. لم يكن هذا هو الكشكول الوحيد لدى صديقي، بائع الكتب، الذي كان يعير هذه الروايات بجنيهات قليلة. لكن المدهش أن بعضها كان قصص “محارم”، وجميعها تدور في وسط بيتيّ أليف. وعلى النقيض من أفلام البورنو فإن الألفة “البدائية، إذا صح التعبير، هي ما كان ينسج الرغبة. لا مشهد يقدَّم على أنه غريب أو شاذ، أو محطم للتابوهات.
إن عالم الرغبة الجنسية هنا يفيد من حالة “ما قبل التحريم”. لكنه ليس عودة للحيوانية مثلا كما يتبادر للوهلة الأولى. بل استثمار لخيال يفيد من مواقع القرابة، دون أن يمثل تحديا متعمدا للتحريم. جو يخلو من الصراع، ويترك نفسه لكل الممكنات بما فيها الممارسة المثلية.
واحدة من الأفكار التي تبادر الذهن بخصوص هذه القصص هو هذا التطور الذي أدى بنا إلى “حب الآخر الغريب”، بل الأدق: “الحب” نفسه باعتباره دائما حب الغريب. وهي في الواقع إعادة تبني للتحريم الاجتماعي/ التاريخي، مع توجيه كل عقده ونواقصه إلى هذا “الغريب”، أو، بالطبع، إلى الذات نفسها.
أتساءل: لماذا تخلو أو تكاد، خبراتنا المدونة من حكايات العبث والاشتهاء الأولى التي تنشأ في وسط عائلي بالضرورة، إلا بعد إسقاط رؤية البالغين الناضجين، وبالأدق: المسؤوليين قانونيا وأخلاقيا، عليها؟
كما تميزت هذه المجموعة العجيبة من القصص بإسقاط فكرة الذنب (مع إسقاطها للتحريم)، فإنها أيضا تقف في منطقة مغايرة عن تلك التي مثلت الشغل الأساسي للتحليل النفسي، منطقة نشوء الحافز الجنسي الأولي.
إن ما يميز “ألعاب الصغار” ليس فحسب أنها تملك خيالا مفتوحا للاشتهاء، بل الأهم أن هذا الخيال نفسه كأنما يعترف ضمنا بغموض الحوافز الأولى. إنه، على عكس الكبار، لا يتساءل بلوعة عن مصدر الافتتان، بل يدفع به الأمام.
إن السؤال عن مصدر أوليّ للغواية هو سؤال مُلتاع، ديني في صميمه، تماما كالسؤال عن “الله”، سؤال يضع كفه في الظلام، ويريد أن ينطق بما لا يمكن قوله.
هل صحيح أن الشعور بالذنب كان نوعا من القهر الذي يفرضه خطاب اجتماعي بخصوص التحريم؟
أم أنه ندم على الاستجابة والتبني لخطاب التحريم نفسه، مع شعور بالعجز عن تبرير هذا الندم؟
هل مصدر العنف هو أننا أجبرنا على هجر بيتنا الأول، أم هو رد موتور للأنا المتشكلة داخل اللغة والمعززة بجسد مغترب؟
لا يخضع الطفل تماما للقمع الاجتماعي كعقدة ذنب، إذ أنه لا يستوعب مضمون هذا الخطاب، إلا في جانبه الآمر فقط. إنه يستوعبه كعنف غامض، غير مبرر، عنف بدئي لم يكتسب أي معنى بعد.
لا تدخل عقدة الذنب إلى نطاق الحياة إلا من خلال اللغة. تفسير العنف (بأثر رجعي) على أنه نوع من الاضطهاد أو القمع أو التقيّد بالمسؤولية ينشأ في اللغة أصلا.
لا تولد عقدة الذنب إذن إلا بعد التبني الواعي لخطاب الآخر والعجز عن تشكيل خطاب يواجهه، لأنه ببساطة لا يمكن لعقدة ذنب أن تنشأ من الخارج، بل من تناقض داخلي.
هكذا فإن الجنس في بيئة كهذه لم يكن خاضعا تماما للشعور بالذنب، ومن ثم لم يكن أيضا يصل إلى حدود “الوجد” ولا التحدي. هو لعبة ضمن ألعاب.
من اللطيف، أن بعض من مارسوا ألعاب الطفولة هذه، الأكثر جدية من ألعاب الكبار، حين يلتقون كبارا يكون بينهم ابتسامة التواطؤ الصامت، هذا الامتنان للاكتشافات الأولى.

من المهم هنا مراجعة دور اللغة ليس فقط في تشكيل خطاب التحريم ومأزقه، بل في موقعة الأنا والآخر كهويتين، وفي المكان الذي عليه أن يتخذه كل منهما. إن تحديد هذه الهوية يحاصر الجسد، وبحصاره يصبح موضوعا للامتلاك، بل يقترن هذا الامتلاك بالمسؤولية أيضا، مسؤوليتي عن جسدي. بينما يمثل جسد الآخر تحديا مثيرا للريبة.
هناك جانبان للغة يبدو أن أحدهما قد انتصر على الآخر: الجانب الجمعي/ العملي الذي كان عليه أن يحيل اللغة إلى معنى محدد، باعتبار ذلك شرطا ضروريا للتعاون البشري الموجه إلى الطبيعة خصوصا ولعلميات التنظيم المصاحبة لذلك. وربما كان النجاح في تحويل الطبيعة مدينا بقدر كبير لهذا الضبط القمعي للغة، ولاكتسابها صفة مجردة تحيل إلى ذاتها، ثم اعتبارها فيما بعد (شأنا مقدسا).
يتجاهل هذا البعد، بعدا آخر أساسيا للغة: الكلام، أو بالأدق: المشهد الكلامي الذي يشترط حضور المتكلم والمخاطب، وبعبارة أخرى يتجاهل منشأ اللغة باعتبارها ليست كلاما في مواجهة العالم بل في مواجهة آخر محدد الملامح. لا يتعلق الأمر هنا فقط بنسبية المعنى في حالة المخاطبة. بل بأن سؤالنا عن المعنى (عن موضعة اللغة وإساندها) كأنما يبحث عن معادل لها يطابقها (هذا هو أنا… ما أقوله هو أنا… ما أقوله هو “الحقيقة”). يتجاهل العنف الأوليّ، يتجاهل الغموض والظلام المحيطين بالموقف الكلامي.
تشير جوديث باتلر في “الذات تصف نفسها” إلى استحالة جلب هذا الظلام إلى نور اللغة، وإلى كون “اللاوعي” ليس ملكا للذات يمكنها سرده ببساطة واستعادته عن طريق التحليل النفسي. ففي قلب هذا “اللاوعي” كان الآخر، أو فيما يسميه ليفيناس “ما قبل الوجود”.
لقد دُفع بنا بطريقة ما للرد على مبادرة لا نفهمها، وهي من ثم تمثل “عنفا” أوليا، قبل أن نتمكن من موضعة هذا العنف في صيغة لغوية، أي قبل ان يكتسب معنى.
إن ثمة غموضا مركبا هنا في كل تخاطب، ينتج أحدهما عن ظلام مسبق، والآخر عن اللغة نفسها التي استقرت في قواعد للإحالة بفضل المجتمع لا يستوعب المتخاطبان كل أطرافها. أحيانا يقول الواحد “أنت لا تفهمني جيدا” وأحيانا “لا أعرف كيف أعبر لك”.
لقد كان الآخر في قلب الموقف التأسيسي لوعي الذات بنفسها. ومن ثم لا تحاجج جوديث باتلر عن عدم إمكان أن “تسرد الذات نفسها” دون مقاطعة؛ إذ بينما تتصور أنها تقص حكايتها، تكتشف أن الحكاية ليست ملكا لها، هناك أيضا ما وراء الحكاية: ذلك العنف، ذلك الظلام البدئي.
الموقف الكلامي يمنع اختزال اللغة إلى مصدر هو العالم أو الذات أو الله. حين أتكلم أفترض الآخر قسرا حتى لو في حديث موجه إلى ذاتي.
وهذا يعني ببساطة أن استمراري في الحديث عن ذاتي يختلف تماما عن الحديث عن الطبيعة مثلا. إذ بينما يكون من الممكن (نظريا) اختزال الآخر في حالة “الطبيعة” إلى مجرد امتداد للذات، حيث الطبيعة لا تموضعني أو تعلن عن رغبتها فيّ، لا يمكن إجراء الفعل ذاته مع الآخر/ الإنسان، الذي لا يمكن اختزاله. فالآخر “يموضعني” أيضا، وهو موجود أساسا في أصل تصوري عن نفسي. مع هذا فنحن الاثنان خاضعان لظلام محيط بنا، ظلام الدوافع الأولى. لقد تكوننا بواسطة عنف خارجي، يقع فيما قبل وعينا، بل تأسس وعينا نفسه بسببه. وبيني وبين الآخر لغة تفشل دائما في تبرير الدوافع بطريقة شافية. اللغة لا تسعفنا. هذا ما يعبر عنه موقف الحب بصورة أكثر وضوحا.
إن كلمة “حب” من أكثر الكلمات غموضا من حيث العالم الذي تشير إليه. نحن متفقون بصددها، لكننا نقول دائما: ليس هذا ما كنت أعنيه. يشعر المحبون أحيانا أن اللغة تورطهم، وتفضي بهم إلى إساءات فهم لا شفاء لها. لأن اللغة في تناقض واضح مع “اللامعنى” المحيط بها من البدء. نحن هنا في صراع مزدوج. الأول هو اسقاطنا لهذا “الظلام” المبدئي على الآخر في عملية استبدال. والثاني الوهم الذي تمارسه اللغة ذاتها باعتبارها تحيل إلى معنى متضمن فيها.
لهذا يعبر اللمس أحيانا، أو النداء الموجه من عيني الآخر ليس فقط عن بديل للغة، بل عن استعادة مركبة للحيرة الأولى وللتضامن معا وللحاجة. تنهي ضغطة أو عناق مناقشة كانت توشك على الاحتدام: إنها تعبير عن احتياج ويأس. يأس ليس بالمعنى السلبي للكلمة، بل بمعنى (لن يستطيع أحدنا أن يكون الآخر، لا نفهم دوافعنا، نعرف أن اللغة ستظل بيننا في الوقت نفسه صلة وحجابا).

تروج الآن قصة أخرى “عبر عن نفسك”، وفي مقابلها (أو بموازاتها) صوابية سياسية انعكست على السلوك الاجتماعي “الصحيح”. وبغض النظر عن ما يمكن أن يكون من تناقض بينهما، إلا إن ما يلفتنا حقا أنهما منهجان يتعاونان للوصول إلى النتيجة نفسها.
“عبر عن نفسك” تتجاهل بالطبع قصة المقاطعة الدائمة، تتجاهل أن الآخر ليس الحاضر في مواجهتي، بل في جذر إفصاحي عن نفسي. اللغة هنا، وهي تدعي الثقة في الإحالة، تصور “الأنا” ملكا لي. وبالمقابل يصبح الجسد سورها وحدها وفاعليتها المطابقة لها.
إن هذا جزء مما يشكل مأزق الحب إذ يبدو وكأنه مبادلة لملكية خاصة، يصبح الجسد موضوعا للتنبه، وللعذاب أيضا. تعبر غنائيات الحب عن فقد شيء ما: أمنحك قلبي، عيني… تعبر هذه الغنائيات أيضا عن قلق رهيب ألا تكون المبادلة متكافئة، أن تُرفض من الأساس… فيبتعد جسدي عني، يتحول إلى ثقل، إلى عار لا أعرف أين أذهب به؟
ولكن لماذا يكون علينا أن نستسلم تماما للحب العشقي الاستبدالي الناتج عن التحريم؟
لماذا لا نفيد من الخبرة السابقة عليه: خبرة الجار، الجسد المجاور، خبرة ما قبل عقدة التحريم، خبرة احترام الظلام الكامن في اللغة.
مع التحريم يبدو الجسد “الممنع” للغريب لأول مرة كموضوع للانتباه، والأهم: للمبادلة. لم يعد جسد أخي وأختي الذي يمر بكل مراحل التفسير والتأويل اليومي: الحنان والصراع والأمن والمنافسة والإشباع وحب الاستطلاع والمشاركة في استكشاف العالم… لقد صار مختزلا بسبب من المبادلة في حب ذي دلالة عشقية جنسية، كجسد مطابق. هكذا لم يعد الجسد حرا: نخشى كل حركة لأن معناها أننا نضع جسدنا في ميزان المبادلة لا الجوار.
ليس هذا سؤالا مجانيا، ولا خارج التاريخ، بل بسبب من التجربة التاريخية بالذات التي توشك أن تجعل من الحب العشقي مجرد نموذج معذب، مجرد حافز لممارسة القسوة بدعوى الاستحالة.
ارتبط الحب العشقي، كما قلت، بالمبادلة. وفي الحب بالذات تكون المبادلة حصرية وفي حدها الأقصى. وهو ما يبرر فعلين متنافضين: تثمين الذات بقدر مبالغ فيه، وتثمين الآخر أيضا بطبيعة الحال. إن هذا يعزز فكرة الأحادية في الحب، بل تبريرها وعقلنتها، بينما هي تعبير عن أزمة مضاعفة.
ماذا يعني أننا لا يمكننا أن نحب في الوقت ذاته أكثر من شخص واحد إلا كون الأحادية تلك هي شكل استبدالي؟ ولا يعني التطابق أكثر من ذلك في الحقيقة. إننا نريد من الآخر أن يلعب دور “الهو”، أن يكون تجسيدا وانكشافا للظلمة التي صاغت الأنا. لماذا يكون الصمت أحد فضائل المحبين إلا أنه ببساطة يزيح الطرف الثالث والإشكالي من المعادلة: اللغة، وبالأحرى، الكلام… هكذا يصبح التطابق ممكنا؟ ما يحدث الآن هو على النقيض نوع من الثرثرة الممتدة اللانهائية. اليأس من “حب المطابق”، من تحريكه باتجاه الهو، تم إبداله بأن تكون الأنا وحدها
وعندئذ لا تمثل أكثر من حضور خالص… حضور كأنما يهرب من سر، مندفعا إلى الأمام على هيئة استطراد لا ينتهي. استُبدل الحب بالإعجاب وكأن الـ(Like) هي أيضا نوع من الاستطراد، نوع من ترميم الأنا الهشة: “لا أريد أن أحَب، بل أريد أن أُعجِب”. لا الكلام وحده، بل الجسد، صار نوعا من الاستطراد والثرثرة المؤكدة للهوة التي يخفيها. أثمة هوة حقا؟ من المدهش أن “الهوة” تتشكل وتنمو وتزداد سطوة لا بسبب “عدم معرفة الذات”، ليس بسبب سر مكتوم. إن الآخر قد خلق فينا هذه الهوة مسبقا. لا طريق للعودة (حتى بالتحليل النفسي)، كما أن إبدال الآخر بالـ”هو” أثبت استحالته. هذا ما يجعل استطرادات الأنا تتخذ شكل العنف، نفاد الصبر، الاستقواء والاستخدام والاستعمالية.
يشكل الاستطراد قانونا فريدا للغة، إذ في غياب الإحالة القصدية، حيث أن الغرض من الكلام هو الحضور أصلا لا الإحالة، تتحول الكلمات إلى علامات طائشة ليست طبعا بلا إحالة أو معنى، لكن بلا قانون للمعنى، وهو ما يخلق بدوره، واقعا معرضا أكثر للصدفة الغاشمة. إن السياسة نفسها تتخذ هذه الهيئة الآن، ليس باعتبارها برنامجا، بل ثرثرة تخلق واقعا على هيئتها.
وهنا يستحسن أن نتوقف لحظة، إذ تكشف هذه اللحظة عن نقطة استثنائية للعلاقة بين الحب والسياسة، ليس باعتبار الحب، بالطبع، ذا تأثير على القرارات، بل باعتبار ما يجمع في العمق بين مفهومين ومجالين.

ثمة ظاهرة كشفت عنها صفحات مواقع التواصل الاجتماعي العربية. ظاهرة ليست جديدة تماما هي الشغف بالحديث في السياسة، وعموما بما يمكن تسميته “الشأن العام”. يبدو هذا مبررا تماما: فإغلاق المجال العام (لا السياسي وحده)، يعد “ظاهريا” سببا رئيسا في اعتبار مواقع التواصل فرصة استثنائية للتعبير عن الرأي الذي ظل مقموعا، وإعادة تشكيل تحالفات (حتى إن كانت هشة) عوضا عن غياب مؤسسات المجتمع المدني، والمؤسسات التمثيلية وعدم كفايتها.
لكن يمكن ملاحظة عملية أخرى هنا، حيث يصبح المجال العام (الغائم تماما) وبلا أي حضور مادي واضح مثل دالِّ مشرّد.
أستخدم تعبير “الدّال” اللاكاني تحديدا، الذي أشار به لاكان إلى “اللاوعي”، لأشير به إلى الآثار المطبوعة على صفحة المجال العام، أي على صفحة الواقع الخارجي نفسه. بخلاف اللغوي دوسوسير، يشدد لاكان على الخط الفاصل بين الدال والمدلول، إن ثمة سورا، حاجزا كثيفا يمنع الوصول إلى المعنى.
يتعامل رواد مواقع التواصل مع المجال العام من خلال الآثار أو “الدوال” بطريقة مشابهة. بمعنى: إن ثمة حرصا خفيا على أن تظل العلاقة بين ظواهر وآثار المجال الاجتماعي من جهة والمعنى أو “الحقيقة” من جهة أخرى كثيفة، بل تصل حد الاستحالة. لكن هذا يحدث بطريقة ملتوية جدا، تبدأ من نقيض ما قلناه: أي من إسباغ معنى وحيد على الظاهرة أو الأثر. ما يحدث هو أن تصبح المعاني نفسها دوالا: فمن التحرش إلى العدالة الاجتماعية إلى الديموقراطية، الاستبداد… تصبح المعاني مستنفدة في منطوقها، لا خط فاصلا على الإطلاق، وهو ما يجعل المعاني نفسها دوالا مطلقة تكتسب قيمة في حد ذاتها. وهذا لا يجعلها تفشل في تفسير الآثار المنطبعة على المجال العام فقط، بل يجعل المجال نفسه جامدا متصلبا غير قابل إلا للتكرار. يمكننا كل يوم إن نجد إدانة لفعل، باعتباره استبدادا أو فسادا أو، بالمقابل، إشادة ببطولة، لكن دون قدرة على تفكيكهما، بل استعادتهما من خلال نماذج مطابقة أخرى أو تُجبر على التطابق إجبارا.
إن صراع “الدوال” الحاملة للقيمة لن يكون إلا صراع مواقع: إما أنا وإما أنت وإما أنا أنت. صراع كيانات جوهرية، أو “هويات” كما يقال.
واقع الأمر إن “الصوابية السياسة” ينطبق عليها هذا الأمر بكل انعكاساتها على الواقع الاجتماعي. لدرجة أننا يمكن أن نلمح فيها صفة العنف.

سأعود إلى الرواية الطريفة “الصبية والسيجارة” للفرنسي بونوا ديتيرتر، متفهما لماذا لم تنل حظها من التنويه؛ وذلك ربما لأنها تستنتج نوعا من المسخرة من قلب الصوابية.
نحن أمام أناس يتصرفون وفق أجندة أيديولوجية ليس بالمعنى الشامل، مثلا تثمين الصحة البدنية الذي يتخذ من العداء للسيجارة أيقونة، وفي الوقت ذاته، حتى لو بدا متناقضا كما تكشف الرواية، احترام القانون الذي يبيح لمحكوم بالإعدام أن يدخن. إن الجدل الدائر بين محامية المتهم والمتهم نفسه من جهة، وآمر السجن الذي يجد نفسه في معضلة غير مسبوقة من جهة أخرى، وصراع الإعلام المدعوم من قبل شركات التبغ من جهة، وجماعات العداء للتدخين من جهة أخرى، ثم اتخاذ القضية بعدا جماهيريا، كلها لا تظهر الهشاشة بل الجمود. ثمة نوع من الأيديولوجية “المجزأة” التي لا يمكن عبورها. صراع مواقع.
إن حوار طرشان يقوم بين الرباعي الذي يحتل الفصل الثاني من الرواية: محامي عائلة الضحية المصر على إتمام الإعدام؛ الجاني الأسمر، شبه الأبله، الذي لا يعرف كم أثار طلبه من معضلات قانونية، مكررا العبارات نفسها؛ المحامية الفاشلة الموكلة عنه والتي تجد في طلب موكلها فرصة لتحقيق مكسب للمرة الأولى وتحويلها إلى قضية أخلاقية؛ آمر السجن الفلبيني الذي يزايد في الحفاظ على القانون كأجنبي يريد أن يقول: أنا مواطن أكثر منكم. إن تكرار العبارات ذاتها (كظاهرة أسلوبية) يشبه يقظة “الدال” نفسه وتكراره في حلم أو زلة لسان، وهي الظاهرة التي أكد عليها فرويد والخاصة بعودة المكبوت.
إن النهاية المظلمة والعنيفة للرواية (كأنها تبرئ الجميع وتدينهم في الوقت نفسه)، رغم مسحتها الساخرة على مدار معظم فصولها، لا تقول لنا ما هو الغائب في هذه الفوضى المنظمة، لكنها تكشف عن “الغياب المطلق” المنتج للعنف، إن لم يكن هو نفسه معادلا للعنف.
إن المعاني الحاضرة كدوال لا تنهي قضية المعنى. فهذا الوضوح والانكشاف الكامل يعني نقيضه في الحال. فحيث يتوقف السؤال لا يتوقف المعنى، بل يولد كفجوة هائلة لا يمكن عبورها، إن ما يستيقظ ساعتها ليس اللاوعي، بل الظلام السابق على تكونه. تصبح الذوات ممثلة لهذا الظلام البدائي بينما “الواقع” هو صورة اللاوعي، آثار انطبعت برغباتها وقيمها دون مرجع.
وكما لا يمكن للظلام السابق على اللاوعي أن يحرره، كذا لا يمكن لهذه الذوات أن تحرر الواقع. فهو يبقى مثل علامة العنف الأوّلي البدئي بلا تفسير.
إن الذات تظل مكانا شاغرا وهذا في الحقيقة يتسبب في شعور بالبطلان: بطلان الكل (فالواقع غير كاف أبدا). أو يتسبب في المطالبة الدائمة التي لا تشبع.
إن البطلان والمطالبة يشكلان الثنائي المتعاقب والمحيط بتعاطي الذوات مع الواقع.
إن وضع الذوات على هذه الشاكلة يبرر هذا الانشغال الإبدالي بالواقع، فالواقع يصبح الاستعارة المستعادة دوما. الأنا فارغة من المضمون والتي لا تكشف عن نفسها إلا من خلال استعارة “المجال العام” أو الحديث باسمه، لكنها فيما وراء ذلك عدمية تماما. هنا لا تُفهم الثورة كاندفاعة للتغيير بل كمطالبة. ولكنها مطالبة مستحيلة بطبيعة الحال.
المطالبة ذاتها تتحقق في “الحب”، فهناك إعلان دائم لعدم الكفاية وفقا لقاعدة “صحيحة” أو تصور خارج عن أي سياق تاريخي. هناك تعنيف دائم للمخاطب، ومطالبة على أساس من تلك “القواعد الصحيحة للحب”، تخوين وتبخيس.
هنا تكمن الحيلة. نستخدم الآخر المخاطَب، كتجسد ناقص للدالّ نفسه في كل مرة. ما النتيجة إذن؟ أعني ما نتيجة مضاعفة الدال وتكراره اليائس؟ العدم طبعا، انفجار الدال نفسه، بطلان الكل، بما في ذلك الذات. استدعاء الخراب الشامل.

يشكل الجسد نوعا من الاستعارة (أو “الشُّرفة“) تحول الفرد إلى كيان سياسي مستقل لكن بلا موضوع، وهو من ثم يتخذ من ذاته موضوعا، وتمثل الصوابية استعارة خارجية تسمح للذات السياسية المتوهمة بفاعلية متوهمة أيضا. ويكون التكرار هو السمة المميزة في الحالين؛ تكرار وتأكيد ومضاعفة للدوال ذاتها (دالّ الجسد، أو تلك الدوال المنطبعة على المجال العام)، تكرار يختفي بالطبع داخل أحداث متنوعة وذات ثراء وهمي لكنها مختزلة في قيم ثابتة تستعاد باستمرار. في لغة مغلقة كهذه تفشل كل مرة في القبض على الغائب عنها تصبح اللغة نفسها ظاهرة عنف وضغط. يستيقظ من ورائها عري بدائي بلا غطاء، خارجا عن اللغة، أو فيما وراءها (كما يبدو على الأقل) بقدر ما لا يحقق مأربا ولا يصفي قضية. إنه عنف مثل خراب المدن في الأفلام الأميركية، حيث في آخر لقطة، وبعد عودة الأمان تماما، تطل الجرثومة ذاتها من نهر، أو بالوعة.
مع هذا، على الواحد أن يحذر من الخلاصات النظرية التي تغلق باب السرد الإنساني، فهذه الخلاصات قد تبدو علامة انتصار. وما يريده الواحد ليس أن ينتصر، بل أن يصادق ويحب ويأتنس، وأن يعيد بناء السرد الذي يحرّر من البنى الثنائية. إن ما يذهب إليه جاك لاكان من حيث الإصرار على مادية الدال وكونه المنطلق الأساسي للتحليل يمكن أن يؤخذ في الاعتبار لسبب آخر أيضا هو أن اللغة ليست مجرد المجال القبلي الذي نشأت فيه ذواتنا فحسب. وفائدة الكلام، بعيدا عن المجال العلاجي، هو أنه يتحرك إلى الأمام ليس فقط ليكشف عن البقعة المظلمة، إنه يتحرك إلى الأمام فعلا خالقا شرطا جديدا للأنا والمخاطب، ومفاجأة غير متوقعة. إن فكرة التطور خاطئة كغاية، ولكنها حقيقية كتراكم وإضافة للخبرة وانحراف عن المسار تتم ملاحقته باستمرار. وهذا ما على كل سرد أن يستبقيه، كما يحدث، أو يجب أن يحدث، في الفن.
إن مهمة سرد جديد ليست أن يقول “كانت تلك طريقة سيئة للحكي” وكأنه يدين، بل أن يعيد العبارات المستغلقة نفسها، والمثيرة لسوء التفاهم داخل سياق يجعلها تحل نفسها بنفسها. ما يتعلمه الواحد أنه ليس هناك مشكلة إنسانية تحل فعليا، بل تخلق الظروف التي تعيد موقعة المشكلة في إضاءة أوسع. إن القانون لم يمنع الجريمة أبدا، وقد يبقى العنف جزءا من التجربة البشرية. لكن ليست المشكلة هي العنف، إن العنف الحقيقي هو الاصطدام باللامعنى. هو نوع الألم الذي يجعل صراخنا مهينا ومذلّا. مع هذا فإننا لا نواجه العنف الحقيقي أبدا. حتى العنف المهين يمكن تأويله. إننا عنيفون لأننا ننتقم من غياب، ننتقم كما لو من أنفسنا، لأننا في الواقع عادة ما نشعر بمسؤولية نحاول طمسها.
نحن نشعر أحيانا بإدانة فوق احتمالنا، منحرفين عن سببها الأساسي (بقانون الإزاحة أو ما يعطيه لاكان صفة المجاز المرسل) بإحالتها إلى ذواتنا، أو إلى آخر كليّ، في نوع من التأليه.
إن قصدية الإهانة والتنكيل بالمعاني والأفكار أحيانا، السخرية الفجة والكَيْد، تعني أن ما يعمل هو الوعي، أننا نريد أن نحكم السيطرة على السرد ولو بإهانته وتدميره. نحن عنيفون ربما لأننا نسقط الآخر/المخاطب مع كونه جزءا من خطابنا نفسه. نعيد تمثيل الندم على إضاعة الآخر، باستخدام ضحايا آخرين، وأحيانا بتدمير أنفسنا.

دينا ربيع: على أعقابهم ينكصون

$
0
0

Shakir Hassan Al Said, The Victorious, 1983. Source: barjeelartfoundation.org

البيت شاجٍ. أهله أطفال لا يلعبون، وشباب لا يعرفون شقوة الحب ولا سكرته، وعجائز جرت أعمارهنّ إكسبريسَ في بلاد تصرف حكوماتها على البنية التّحتيّة ما يحفظ ماء الوجوه.
على الحوائط ذكريات عنف وزعيق ونحيب وسكّين يتبادلها طرفا خناقة هزليّة. يعرف الطّرفان والشّاهدون والحوائط وكرسيّ الصّالون الذي يهامس أخاه بعد أن ينام ساكنو البيت أن أحدهما لن يذبح الآخر بها، لأنّ ليلة كهذه لا تخلص إلى نهاية كتلك، ولا تحسن سكّين المطبخ القِتلة، غير أنّهما يطيلان التّناوش بها ليزيدا على المشهد القبيح قبحا، ويخرّبا أعصاب الصّغار أبدا. 
امرأة تشجّ رأسها اعتراضا على هجر حبيب؛ لم تُنصف مع إمكان الوصل ووجود السّبيل، تَمدُد بسبب إلى السّماء ثمّ تقطع، ولا يُذهب كيدُها ما يغيظ.
ورجل طالما صدّعهم بحديث خائض في عقدة المستعمر، يعنّف امرأة ادّعى حبّها في الليل ثم مال عنها لما تكوّر عليه النّهار إلى أخرى بشرتها كلهجتها بيضاء لا يلويها كسر، فأصبح فؤادُ الأولى فارغا. 
وشاب ينتحر انتحارا بطيئا؛ يأخذ حمّامات من أشعّة إكس كل نهار تحت طيف ماكينة ألمانيّة فائقة.
من وراء حجاب أتابع ما يصير في البيت بابتسامة صفراء لا تصلحها معاجين الأسنان المبيّضة. 
اقترب مني رجل، أزعجني شدّ ما اقترب، أشرت إليه، وهممّت بمحاضرته عن المسافة الصّحيّة للاقتراب لولا أنه شمّر ثوبه. 
في الليل أرقت. من وراء حجابي التفتُ إلى النّافذة على الشّارع، شعّ في سرمد الظّلام عينان خضراوان. فزعت ورجعت البصر كرّتين، فإذا هما كشّافا سيّارة. 
غمست إصبعي في دم حيضتي الناريّ الطّازج ثم مزجته بقطعة شوكولا حرّيفة أذابتها الحرارة عن شمالي، وبلعت المزج بتمعّن. 
انقلب بصري إلى الشّارع، فإذا امرأة تدخّن سيكارة. لا تدخّن النّساء رجالا في شارعنا إلا لعلّة العته. تبع رجلٌ منتن السيّدةَ المعتوهة، أصرّ على أن يشعل لها، تنبّه عقلها للتّهديد على ما فيه. رأيت من نافذتي يديها تتقلصان وتخبئان السّيكارة، وقدميها تسلمان للريح. تمخّض الرجل من فمه بمخاط صوّبه إلى الريح فلم أدرِ أيّ عضو من جسد المرأة لقفه. 
غمست إصبعي في دم حيضتي، كان قد نضب.
 لم يردع الرجلَ الذي لا يعي الحدود الصّحيّة للاقتراب تهديدي بنداء شرطيّ. عصر ذراعي بين أصابعه، ثم استطالت أظافره وانغرست في لحمي، وكشّافا السّيارة عينا جنّيّة تعنّان وتختبئان لتزيدا جنوني. لم أنتبه ساعتها للوجع، كنت منشغلة أنتخب عذرا أدّعيه حين تسألني أمي عن أظافرَ نبتت من لحمي لبلابا على مرفقي. 
في الصّباح نامت أعين الجنّيّات. فردت العجوز شعري وشرعت في تمليسه إلا من خصلة، تركتْها على حالها جعداء تأكل ليلي. سهرتُ ليلتي مع الذي كان معي، حدّثني وحدّثته حتى سال من لعابه مقالي. لسعني ليله واستعذبته، كما تُستعذب لسعة الدّخان في أغشية الأنف واللسان.
أمشي في جنازة لا أعرف ميْتها لأحزن اليوم على ما لم يتسنّ لي أن أحزن عليه أمسَ. كان دينه سهلا يجعل الرّب أبا للجميع ولا يوجع قلبي بمتاهة من المجاز تخلُص إلى قول الشيء نفسه بغير أن تقول؛ خشية  تحريق أو أن تُسبر غيرة الأب الجديد من القديم. 
الأب الذي أنكرني قبل أن يصيح ديك شهرزاد فبتّ أنا وشكّي متعانقَين إلى الصّباح نتربّص، ورأيت أثر إنكاره في تأرجح ضربتي على معزفي، وفي جسّ الوتر. قال لي كلمة أهوت بي في اللوام سبعين خريفا. أسأله وألحّ في السؤال، لأنّي آنف من أن أسلم للجِنّة. 
يقبل ثم يدبر كرجل سأله نبيّ أن يقاتل معه في يوم قيظ فصار يقول أنا قادر عليه حتى اشتدّ بالنّاس الجِدّ فرجع ولم يقض شيئا. يحسن صنعته وإن سرق أصل فكرتها، يحسن مواضع الاختلاس. لا يشوبها عكر تُرى من تحت عظم ولحم كمخّ ساق حوريّة. يقول إن كل الأفكار مسروقة، أسئله عمّن أتى بالفكرة الأولى وأيّ جلال استحقّه؛ أيّ مجد!
البحر مشبع بدخان السّيارات، ليس لرياحه رطب الماء. لا أفتقد رفيقا كدت أجنّ من شوقي إليه في زمان قريب، وأفتقد رفيقا لم أكن أعبأ من قبل بدعائه. أمشي طريقا لم تك تتعبني، أتعب اليوم تعبي هذا فأتّكئ على صخرة في الطّريق، تلسعني. 
عجوزا مثل أمّي في خمسينيّاتها أنخرط في أحاديثَ مقعّرةٍ مع امرأة التقيتها لتوّي، يفضي بعضنا إلى بعض ثم تنطفئ سيكارتانا وتمضي كلتانا إلى طريق. 
تأمّلتني قطّة سقط بعض شعر شاربها، كانت مالّة بقدر مللي أو يزيد. 
دلفتُ إلى مدخل الجامع، أوقفني مالكٌ، خاطبني بإنكليزية أضحكتني، قلت له إن أمي من شبرا، انسحب من أمام الفسحة. 
طلبت من الوليّ الذي لا أعرفه مددا، كنت قد طلبته منذ ثلاث سنين ونسيت ما فعل فيه فافترضت حسن نيّته وأرجأت فرصته لإثبات ولايته إلى يوم آخر. 

ياسر عبد اللطيف: شهوة الملاك

$
0
0

Hesham Elsherif, from “The Way to Hell”. Source: arabdocphotography.org

في حضرة المشنقة، فوق الطبلية، وردًا على السؤال التقليدي، قال للجلادين ورجال القانون إن رغبته الأخيرة هي أن يغتسل حتى لا يقابل ربّه نجسًا. كان إسهال مائي قد أصابه في الطريق من الزنزانة حتى موضع حتفه. لم يستطع التحكم فيه وهم يجرونه جرّا، كما انفتح صنبور بوله من الناحية الأخرى فوصل وقد ابتل بنطاله الأحمر تماما وتلوث بنفاياته حتى فاحت روائحها بقوة في الهواء الثقيل لغرفة الإعدام. قوبِل طلبه بالصمت التام من قِبل مأمور السجن والقاضي وكبير الأطباء. لو أخذوه للاستحمام فذاك يعني الفترة الزمنية التي يستغرقها مشوار آخر حتى حمامات عنابر الحبس، ثم فترة الاغتسال نفسها، ثم العودة من هناك مرة أخرى؛ وذلك بالتأكيد إهدار كبير للوقت الحكومي، ولوقت الباشوات الكبار الذين جاءوا لاستكمال إجراءات تنفيذ الحكم. أدرك الجلادون مغزى صمت الكبار، فسيق إلى موضعه فوق مركز الطبلية دون تلبية الطلب، وأُحكمت الأنشوطة حول عنقه، وألبسوا رأسه الكيس القماشي الأسود.

استيقظ عاطف ظُهرًا كعادته وكان وحيدًا في البيت. ذهبت أمه إلى عملها وشقيقته إلى الجامعة. وجد جريدة الأهرام على مائدة الطعام في الصالة. كان يقلب الصفحات بتكاسل ودون اكتراث كبير وهو يرشف الشاي عندما وقع على الخبر في أسفل الصفحة الأولى. كانت الحادثة الأولى من نوعها، فرجّت البلد رجّا. وتابع الناس باهتمام بالغ تفاصيل القضية، وحيكت الأساطير حول الضحيتين وعُصبة الأشرار، لا سيّما المتهم الأول. تنفس عاطف الصعداء بعد أن قرأ الخبر مرتين حتى حفظ أسماء المأمور والقضاة وضباط المباحث المشرفين على العملية، ابتسم ابتسامة خفيفة من جانب فمه. وضع الجريدة جانبًا وحمل كوب شايه، ووقف في الشباك. همُّ كبير انزاح، وعادت له راحة البال، وامتلك الفضاء حوله حرّا من جديد.

في شظية كبيرة مثلثة الشكل، من مرآة محطمة  تستند على حوض اغتسال صغير، وقف صلاح يمسد شاربه الكثّ وينظر مليّا إلى عيني نفسه ليرى قدرتهما على التأثير والإخافة. لم يتخط الرابعة والعشرين لكن تلك الحزمة من الشعر الأسود التي ترسم مستطيلا ناقص الضلع تحت منخاريه أكسبته عمرًا مرعبا فوق عمره. تاريخ من الشقاوة والتثبيت واللعب بالمطاوي في مرابع طُرة الحجَّارة وكوتسيكا وعزبة المصري أذاعت صيته حتى المعصرة. في عزبة العسكري الصغيرة، المتاخمة لليمان الأحكام المشددة، وفي حمام بمرحاض بلدي وحوائط رمادية نشعت الرطوبة في أجزائها السفلى وعلاها طحلب أخضر، وقف يمشط شاربه الكث الذي استوحاه من شارب ثابت البطل، حارس مرمى الأهلي والمنتخب القومي المغوار الذي صدّ طاقمًا كاملا من الركلات الترجيحية بلا اهتزاز. كان أبوه سجّانًا في الليمان فاستحق بيتا من تلك البلوكات الرمادية في عزبة العسكري، التي يشغلها سجانو وحراس المُجمَّع التأديبي.
كان صلاح  قد فتح بابًا خاصًا لغرفته على الشارع مباشرةً. يدخل ويخرج دون أن يضطر  للمرور داخل بيت العائلة والاحتكاك بأهله. ويأتي له الأصدقاء ليلا يسهرون للصباح في الغرفة دون أنيجرحواحرمة الدار. وعُرفت غرفة صلاح في عموم طرة كغرزه بإمكان الشباب أن يزوروها متسلحين بأي من صنوف الكيف ليقضوا هناك الوقت الطيب نظير أن يؤمنوا لصلاح نصيبه الخاص مما أتوا به. وبالطبع فاحت الروائح وشوهدت الحقن البلاستيكية وأنابيل الماكستون فورت الفارغة متناثرة تحت شباكها؛ وعلى الرغم من أن الغرفة على مبعدة خطوات من نقطة شرطة طرة البلد، إلا أن ذلك البيت في النهاية مملوك للصول فتحي أبو حلاوة والد صلاح، وهوشئنا أو أبينامن رجال الشرطة المحصنين، وبيته وأبناؤه بالتبعية كذلك، مالم تُجتاز الخطوط الحمراء.

برز الفنان حمدي الوزير في دور الكمساريضيففي فيلمسوّاق الأتوبيسللمخرج عاطف الطيب. الفيلم عن قصة للمخرج محمد خان الذي لم يعتد الكتابة لا لنفسه ولا لغيره، وهو يحمل روح عوالمه أكثر مما يحمل روح عوالم عاطف الطيب. فهو  كما تخيله خان فيلمطريقمن النوع الذي يهواه وقدمه أكثر من مرة. سائق حافلة حكومية، ويمتلك تاكسي ليحسّن دخله، يجوب القاهرة يوميًا مستعرضًا شوارعها، بل ويقطع الطرق السريعة خارجها نحو دمياط وبورسعيد ليزور شقيقاته وأبنائهن، ويطلب المساعدة من أصهاره لإنقاذ ورشة أبيه. وهنا يبدأ تدخل السيناريست بشير الديك والطيب نفسه، فيرفعا القصة، أو يهبطان بها بالأحرى، للمستوى الرمزي، وتتحول ورشة الأب المهددة بالهدم إلى أمثولة عن ضياع الوطن، وتتحول القصة بأكملها إلى هجائية لعصر الانفتاح وانهيار القيم الأبوية الجميلة. ويتصاعد ذلك المنحى عندما يكتشف البطل الذي جسده نور الشريف البعد الوطني والنضالي لقضيته، فيستدعي زملاءه السابقين في الجيش ليساعدوه على إنقاذ الورشة/الوطن. كان سائق الباص الوطني الأسطى حسن زوج الحسناء شاهقة الجمال ميرفت أمين يعامل مساعده الكمساري ضيف/حمدي الوزير كما يعامل أستاذ في معهد المسرح تلميذًا موهوبًا يشي بفنان بارع، فيتسامح مثلا مع العلاقة الناشئة بينه وبين شقيقته الحسناء، وهذا نحسبه من شطحات خان. هكذا، وبخلاف عدد من الأدوار التلفزيونية المتفرقة، وجد حمدي الوزير مكانه بين قطاع من ممثلي الأدوار الثانية المجيدين في عقد الثمانينيات مع فنانين من طراز محمود مسعود ومحمد كامل وحسن العدل. وكان دورضيففي سواق الأتوبيس هو أوضح حضور للفنان حمدي الوزير حتى تاريخه. وكاد أن يثبت عنه صورة ابن البلد الأسمراني الشهم الطيب، لكن للقدر تصاريف أخرى.

غدًا امتحان اللغة العربية للصف الأول الثانوي. عاطف ويونس يجلسان في غرفة الأول وأمامهما نسختان من كتابالأضواءفي اللغة العربية مفتوحتان، ونسخة قديمة من روايةديفيد كوبرفيلدعلى جانب الطاولة. جهاز الكاسيت بجانبهما يذيع أغنيةالقديسون في الجحيملجوداث بريست، وصوت الجهاز خفيض ليضفي على جلستهما سمت التركيز في الاستذكار. عاطف يقصّ على يونس كيف عضّ ديفيد يد ميردستون زوج أمه، ويضحك. يسأله يونس: هل تعتقد أن ديفيد كوبرفيلد هو تشارلز ديكنز نفسه؟ الامتحان غدًا، لكن ذلك غير مهم. وكانت ذبذبات الهيفي ميتال تفعل فعلها مع توتر فقد موضوعه بعد أن بدت المدرسة بكل ما تعنيه كيانًا سخيفًا ناسه غارقين في الافتعال والتظاهر؛ عالم يستحق قطيعة تقطعه. وقف الصديقان في النافذة يدخنان ويطلان على سور معهد اللاهوت المقابل لغرفة عاطف. كان هادئا وغارقًا في صفائه المسيحي وكأنه في مكان آخر غير القاهرة. كأن خداعا بصريا أخبرهما عن شخص يقف منفردًا بجوار السور. المسافة ليست بعيدة، لكن الظلام والضوء الأصفر الشحيح لعمود الإضاءة الوحيد جعلا وجود ذاك الشخص شبحيًا. حدقا، فتبين أنّها فتاة في بنطال وقميص أبيضين واقفة تدخن بمفردها بجوار السور، وتبدو كمن لا ينتظر شيئا. تراجع دافيد كوبرفيلد، ودقات درامز جوداث بريست تراجعت، وعلى الرغم من الساعات القليلة التي تفصلهما عنه تراجع امتحان اللغة العربية الوشيك، والذي يفتتح أسبوعين من الهم والقلق ينتهيان لتبدأ إجازة الصيف. بدأت الإجازة الآن. عطلة من كل شيء يحتل فراغها فضول عنيف دفعهما للنزول من الغرفة لمطالعة خبر تلك الفتاة الواقفة وحدها تدخن بجوار سور المعهد.

فيما يأكلالطبخة السوداءوهي باذنجان مقطّع ومطهو بالماء دون مرق أو دسم، وبلقمة كبيرة من خبز السجن الطازج، مضغ حصاةً اختبأت وسط الدقيق فكسرت أحد ضروسه العلوية طوليًا حتى الجذور. الألم الرهيب أفسد حتى اللحظات القليلة التي لا تزال تنبض بالحياة مع مذاق الخبز الطازج وحده. حتى تلك الرائحة للأرغفة الخارجة توًا من الفرن والتي تحرك غدد الحياة في جسد محكوم بالإعدام ارتبطت خلال الأيام التالية بالعصب المنخور الذي يدق كمطرقة في المخ مباشرة. صارت رائحة الخبز الساخن هي رائحة ألم الضرس المُذِل. طلب من العريف مصيلحي سجّان العنبر أن يساعده في الإحالة إلى مستشفى السجن ليرى طبيب الأسنان، فيخلع ما تبقى من الضرس أو يكتب له دواءً يسكت ذلك الطرق الذي يثقب اليافوخ ويبكيه كالنساء دون اعتبار للبذلة الحمراء ولا لـأرجوحة الرجالالتي تنتظره. كان مصيلحي قد خدم مع أبيه لسنوات في سجن العقرب ويساعده كثيرًا، لكن لا حيلة في الإعدام. فوعده أن يفعل ما بوسعه، وأعطاه بعض حبات القرنفل الجاف المعروف بتخديره لألم الأسنان وقال له: “خد عضعض في دولهايريحوك شوية لغاية ما نشوف موضوع المستشفى“.

اقترب عاطف ويونس من الفتاة وهما يفتعلان فتوةً وجرأة. كلّمها يونس أولًا وسألها إن كانت تحتاج أي مساعدة. فأجابت بالنفي. أثارتهما وقاحة نظراتها. كانت تبدو من عمرهما أو أكبر قليلًا. تدخن بشراهة. سألها عاطف عمّا تفعل في هذا المكان، باعتباره من سكّان تلك البقعة ومسؤولا بشكل ما عن صدّ تسلل الغرباء إلى المحيط. قالت إنها لا تفعل شيئا، ومستعدة لفعل أي شيء، ولكنها جائعة جدًا! تصاعدت الإثارة حتى منتهاها. داخل رأس كل منهما دار السؤال الغريزي: هل سأرى أخيرًا ذلك الشيء؟ هل سألمسه وألجه وأشم رائحته؟ هي فتاة حقيقية. تبدو مطرودةً أو مشردة ولا تنتمي للمنطقة بأي حال من الأحوال. تقف في ظلام شارع ١٥ وحدها تدخن لا تلوي على شيء ومستعدة لأي اقتراح.  قال عاطف: لنقفز السور إلى ملعب الكرة التابع للمعهد ونجلس هناك في الهدوء. الرهبان نائمون الآن وهم أصدقاؤنا على أي حال ومسالمون بطبيعتهم. ردت الفتاة بحدة: “لا ما أنطش أسوارجيبولي أكل وبعد كدة اللي عايز يخلَّص يخلَّص“. زادت كلمةيخلّصمن استعار خيالهما. كانت المرة الأولى التي يسمعان فيها فتاةً تتكلم بهذا الوضوح. سألاها عمّا تريد أن تأكله. “آكل كبدةآكل سجقلحمة مفرومةفول بقوطةأي حاجة“.  لفتت كلمة لحمة مفرومة انتباه يونس. كلّ ما قيل مفهوم. سجق وكبدة وفول، لكن اللحمة المفرومة تبدو غريبة في هذه الجملة. هل تؤكل وحدها. أيبيعها أحدهم مطهوةً؟ تذكر عربة سندويتشات الكبدة بجوار محطة الثكنات. ذاك الرجل يبيع بجانب الكبدة نوعين من السجق: نوع إسكندراني مبهر ونوع آخر مفروط من أنابيبه المعوية يبدو بالفعل كلحم مفروم مجهول المصدر.
عرّفا نفسيهما، وعرفت الفتاة نفسها باسمعتاب“. ولم يشك كلاهما أن ذاك ليس اسمها وأنه مستعار من اسم المطربة السعودية الأفريقية التي كان قد ذاع صيتها في القاهرة تلك الأيام نفسها. اتفقا أن يأخذاها إلى كشك سندويتشات الكبدة نفسه عند محطة الثكنات. النقود القليلة في جيوبهما تسمح بذلك، والمسافة خمس دقائق من السير. سار ثلاثتهم بحذاء سور معهد اللاهوت في  شارع ١٥حتى التقى مع شارع ٨٧ فانحرفوا فيه يسارًا في اتجاه المحطة. وبعد دقيقة أخرى كانت على يسارهم بوابة مدرستهما الرئيسية، وكان عم عبد الظاهر الغفير جالسًا يدخن المعسل على الجوزة جوار الباب.  ألقيا عليه التحية وهما مترددان فرد باقتضاب ونظر لهما بفضول أثاره وجود تلك الفتاة الغريبة بجوارهما. لكنهما لم يكترثا وواصلا السير. وبعد بضع عشرات من الأمتار قابلا هشام عبد الله زميلهما في الفصل يسير عائدًا في الاتجاه المعاكس، ويحمل تحت إبطه كتبًا مما يعني أنه عائد من درس خصوصي للمراجعة النهائية ليلة الامتحان. وقفا ليسلما عليه وعرّفاه على عتاب. أدرك من تلقاء نفسه الموضوع، وقرر الذهاب معهم إلى بائع السندويتشات إياه، مُمنيا نفسه بالشيء نفسه الذي يتمناه زميلاه.
بجوار محطة قطارثكنات المعاديثمه ما يشبه السوق الصغيرة، تضم متاجر وحوانيت تبيع بضائع وخدمات مختلفة: بقال كبير وآخر صغير، متجر للأدوات المنزلية، تاجر دواجن وسباك ومتجر خضروات وفواكه، ومقهى شعبي لا يؤمه سوى سائقي التاكسي، وعربة الكبدة الزجاجية التي احتلت رصيف المشاه عند التقائه بسور المحطة. وفي ذلك الحيز الذي استقطعته بين العربة والسور وضع الرجل طاولتين يأكل عليهما الزبائن. على واحدة منهما، وإذ وصل أصدقاؤنا الأربعة وجدوا حمادة المغربي وعلي حمد جالسين إلى طبق به هرم من السندوتشات وآخر به حفنة من قرون الفلفل الأخضر. جلس الركب إلى الطاولة المجاورة، وتقاطعت التحايا والأحاديث الصغيرة بين الطاولتين. وما إن انتهت عتاب من التهام عدد من السندوتشات، حتى كان حمادة وعلي قد انضما للطاولة الأخرى، وللرحلة نفسها. تحركوا جميعًا من لدى بائع السندويتشات بحثًا عنمُكنة؛ الركب الذي بدأ  بعتاب مع عاطف ويونس، ارتفع إلى أربعة أفراد بعد أول منعطف ثم صاروا ستة بعد مغادرة المطعم كعصابة من قطط ذكور تزحف خلف رائحة الشهوة لدى قطة حائض يزدادون قطًا جديدًا عند كل ركن. صرحت عتاب بأكثر من طريقة أّنها لا تقبل مضاجعات الهواء الطلق. وعليه، فكما تم استبعاد ملعب الرهبان، تم استبعاد فناء مدرسة فيكتوريا الذي يسهل التسلل إليه، والمناطق المهجورة على شريط السكة الحديدية، وحديقة شارع القنال المظلمة، وصحراء دجلة القريبة.
قال حمادة المغربي إنه يعرف شابًا من طرة يعمل في محل الحلواني القريب اسمه خالد الخواجة سيستطيع أن يدبر مكانًا بالتأكيد، فهوصايعكبير. توجهوا جميعًا إلى الحلواني، ودخل حمادة المتجر ليخرج لهم بخالد الخواجة. كان شابًا نحيفا طويلا وفي الضوء الكابوسي لمصابيح الفلورسنت الخضراء التي تزين واجهة المحل تبينوا وجهه المليء بالندبات والجروح القديمة. قال الخواجة إنه سيأخذهم  إلى صديق له عنده مكان مأمون في عزبة العسكري. ولم يتطلب الأمر سوى عبورمخرّ السيلأو المجرى المائي الفارغ الذي يفصل المعادي عن طرة، ثم تجاوز نقطة الشرطة، ثم  محطة قطار طرة ثم بانحرافة بسيطة كانوا جميعا في قلب العزبة بين بيوتها الشبيهة بمكعبات رمادية من طابق واحد. وعند أحدها طرق خالد الخواجة بابًا جانبيًا فخرج له شاب قصير بملامح غاضبة وشارب كث مربع لم يكن سوى صلاح أبو حلاوة نفسه. وقفوا هم الستة على مبعدة خطوات: يونس وعاطف وهشام وحمادة وعلي وبينهم عتاب في ملابسها الرجالية لا تبين أنوثتها، فيما أخذ الخواجة يهمس لأبو حلاوة بما لا يسمعون.
بعد نحو دقيقتين اقترب أبو حلاوة منهم وخلفه خالد. وقال: تعالي يا عتاب نومتك عندي الليلة دي. ثم موجها كلامه لجمع الشباب: مع السلامة انتو بقى وما نجيلكوش في حاجة وحشة. وبهدوء شديد واستكانة انسلت عتاب من وسطهم ودخلت تحت جناح أبو حلاوة. فكر عاطف: هذا شاب قصير، هو متين ويكبرني ببضعة أعوام لكنه أقصر مني نحو١٥ سنتيمترًا ونحن عصبة. وكان يونس يفكر: نحن في منطقته، لا فائدة من الاشتباك معه. خسرنا المعركة بضربة قاضية في الجولة الأولى وطارت عتاب. انبرى عاطف متشجعا بتفوق قامته رأسيًا على أبو حلاوة وقال له مُصطنعًا لهجة حادة: يعني إيه يا باشا؟ هو خالد قال لك إيه؟ مش ده الاتفاق! رأى أبو حلاوة تلميذًا في نحو السادسة عشر يتبجح ويسائله مُغترا بطوله. فدفعه في صدره دفعة مؤلمة وقالامشي ياد ياخول منك له من هنا“. ومضى نحو الداخل ساحبا عتاب من ذراعها. وعندما همّ خالد الخواجة بالدخول معهما استوقفه وقالارجع ياله مع العيال دي عالمعادي زي ما جيت بيهم“. عاد الركب مطأطئ الرؤوس، وفي الطريق أخذ عاطف ويونس يقرعان الخواجة بتهكم سام وسط ضحك الثلاثة الآخرين. وبدا الخواجة بطوله الفاره ونحافته وندبات وجهه تافهًا للغاية.
وبعد بواخ المغامرة، واحتقان الآمال، تبقت حقيقة وحيدة وهي أن امتحان اللغة العربية بعد ساعات، وأنه سيفتتح أسبوعين من السهر ووجع الرأس.

 

فاصل عن الضحايا

Actor Hamdi Al Wazir, based on a YouTube image

حصل صفوت بسطويسي على الشهادة الثانوية من السعودية حيث كان يقيم مع أبيه وأمه اللذين يعملان هناك. ولما كان من الصعب في مُلك آل سعود التحاق طلاب أجانب بالتعليم العالي، عاد الولد الوحيد ليكمل تعليمه في القاهرة وجاء معه أبوه في مهمة محددة: أن يسجل الولد بإحدى الكليات ثم يعود إلى الرياض. لديه الشقة في مدينة نصر، واشترى له سيارة جديدة. لكن بعد معادلة الشهادة السعودية اتضح أن مجموع صفوت لن يؤهله للالتحاق بأي جامعة في التنسيق، ولم تكن الجامعات الخاصة قد ظهرت بعد في اقتصاد التعليم المصري، فلم يتبق له سوى المعهد الفني الصناعي بشارع الجلاءلكن الولد أبى واستكبر أن يتخرج في النهاية فنّيًا، أي عاملا يدويا. فإن اقتضى الأمر معهدًا من ذوي العامين والشهادة المتوسطة، فليكن على الأقل معهدًا تجاريًا يجعله محاسبًا، وإن في الدرك الأسفل للياقات البيضاء. لكن حتى المعاهد التجارية في القاهرة لم تكن لتقبله بذا المجموع، وإذا كان مصرّا على هذا النوع من الدراسات فعليه أن يلتحق بأحد معاهد الأقاليم. لم يكن أبوه ليقبل له بغربة فوق الغربة. فهنا في القاهرة شقتهم التمليك، وهناك أعمامه وأخواله في شبرا والهرم ليراعوه بين حين وآخر، كما سيوصيهم الأب.
وبعد بحث واستقصاء، اهتدى الولد ووالده إلى معهد لا يخضع لنظام التنسيق بشارع مجلس الشعب قرب وسط المدينة يقال لهمعهد اللاسلكي، زعم مسؤولوه أنّه يضمن لخريجيه وظيفة ضابط اتصالات في المطارات أو السفن التجارية. كان اللقب مغريًا: ضابط اتصالاتضابط اتصالاتضابط اتصالاتليكن.
وفي ذلك المربع المليء بالوزارات والمصالح الحكومية، والمحصور بين شارع قصر العيني وشارع مجلس الشعب وضريح سعد وشارع المبتديان، تتناثر عدة مدارس من طراز خاص قريبة من معهد اللاسلكي. فهناك مدرسةحُسن المسرَّات الثانوية المشتركةوهي مدرسة خاصة بالمصروفات لا تقدم تعليمًا أجنبيًا أو مميزًا، هي فقط بوابة لدخول التعليم الثانوي العام لمن لم يحصلن أو يحصلوا على مجموعات مؤهلة في الإعدادية. ويجب ألا ننسى مدرسةالإنشاءالتي قامت بالأساس على فكرة فصول التقوية المسائية. وقد لاقت الفكرة نجاحا ساحقا لجمعها مساءا بين طلبة مدارس البنين وطالبات ثانويات البنات في فصول واحدة، فيكون التعارف والتعليق، وتعليق الآمال طويلة الأمد أو قصيرته.
دخل صفوت ذات مساء إلى قاعة المحاضرات ليحضر درس شفرة موريس وهي من فنون البرق والتلغراف، ليجد الطلبة جالسين وأمامهم سندانات الإسكافية التي توضع عليها الأحذية مقلوبةً ليدق الجزمجي مساميره فيها يركب نصف النعل مقصوصًا من إطارات طائرات أنتينوف الروسية البالية. كان الطلبة يدقون بالمطارق على الأحذية صبيانًا وبنات. لم يفهم صفوت جيدًا وظنّ أنه أخطأ المكان. ما للجزمجية والأحذية باللاسلكي والشفرات، لكنه تعرف على زميلته منى الدَنَف تمسك بشاكوشها كأمهر جزمجي. وقبل أن يدرك تماما الموقف رأى أحد الطلبة ينسحب من أمام سندانه وحذائه المشهور في وجه السقف ليجري خلف طالبة خرجت بعد اسئذان المحاضر وهو يصيحأنا وراك لما أدوبك يا سكروأطلق صفيرًا رفيعًا إذ يمرق من باب القاعة.
منى الدنف تخرجت في حسن المسرَات المشتركة إلى معهد اللاسلكي، وغني عن القول أنها كانت من طالبات الإنشاء المسائية أيضًا. ومدرسة حسن المسّرات اسم على مسمى. كنتَ ترى الطلبة متأنقين والطالبات متزينات بماكياج كامل في الصباح الباكر تدق كعوبهن العالية أرصفة شارع المبتديان وتسمع في الجو  همسهن رقيقًا كاليمامات. تسكن منى حي المنيل المشهور، وتعبر جسر قصر العيني سيرًا على الأقدام مع عشرات البنات في المرايل الكحلية يغبطنها على التبرج المتاح في حسن المسرات، والذي تحظره كلّ المدارس بصرامة لا تطبق على أي شيء آخر في العملية التعليمية. بنات المير دو ديو الفرنسية يلبسن قمصانًا صفراء، وبنات قصر العيني الثانوية ومدرسة السنية التاريخية يلبسن المريلة الكحلية أو تنورة من اللون نفسه مع قميص أبيض. أما طالبات حُسن المسرّات لا، كل يوم في هندام وذوق مختلف. وهكذا، ظلّت منى تتحرك في مربع حي سعد زغلول والمنيرة طوال فترة الثانوية وما بعدها.
سيارة صفوت من طرازبونيأولى إنتاجات شركة هيونداي الكورية. لم تكن للسيارات الكورية سمعةٌ طيبة وقتها، لكنّ تصميمها الذي يحاكي طرز يابانية أكثر جودة وشهرة انطلى على منى الدنف. ومع الأداءات المتعالية لصاحب البوني، وسط أغلبية من الطلبة البائسين، وإذ كان الصلف والغرور جذّابين للجنس الآخر زمنها، سرعان ما اشتبك صفوت ومنى في علاقة. كان اسمه يدهشها، تجده مثيرًا في حد ذاته، صفوت صفوت صفوت. اسم نادر، لا تذكر أنها عرفت شخصًا يحمل هذا الاسم إلا لاعب كرة شهير اعتزل من سنوات وإذا أضيف لهذا الاسم اسم عائلته صار جرسه الموسيقي علامة مسجلة على تلك الطلّة الواثقة التي تعجبها: صفوت بسطويسي!
وفي الليلة المشؤومة رفضت رفضا باتا أن تذهب معه إلى شقته في مدينة نصر، وتحججت ببعد المسافة بين المنيل وبيته. فكر في المعادي، فشوارعها المشجرة يلفّها ظلام لا يقطعه بصيص ولا يمر به عابر. وبالفعل أقنعها أن المعادي قريبة من المنيلسيجلسان هناك في سيارته فيهدوء، يشربان زجاجتي بيرة ويتكلمان قليلا ثم يعيدها إلى المنيل قبل العاشرة. وهناك ركن السيّارة البوني في شارعالقنالالمظلم تحت أشجار الكافور العتيقة. “الدنيا كحل!” قالت منى خائفة ومستثارة في الوقت نفسه. قال لها صفوت: “أحسن“. ثم فتح زجاجتي البيرة وقدم لها واحدة آملا في أن يجعل الكحول ليلته لينةً. بدأ بقواعد التهذيب وإمساك الأيدي الرومانتيكي. لاحظ استسلام يدها في كفه العريضة؛ تركتها دون تفاعل ولا انسحاب، فاعتبرها علامةً طيّبة. لم تكن العتمة تامةً، فبخلاف أضواء المدينة التي تترامى من بعيد منعكسة على السماء، فيستطيعان تمييز خياليهما، كانت ثمة لمبات حمراء وخضراء متناهية الصغر تومض وتنطفئ في نظام غامض من  جهاز الكاسيت في السيارة. إيقاع أضوائها يتراقص وفق لحن الأغنية الدائرة، لكن لما كان الصوت منخفضًا عند درجة الصفر لدواعي التخفي، بقيت تلك الذبذبات الملونة تتراقص بشكل عشوائي غير مفهوم وتاهت وداخت خلفها رأس منى تمامًا وزجاجة البيرة سعة ٧٥٠ سنتيلتر القديمة لم تبلغ منتصفها. قبّل خدها قبلةً خفيفة استكشافية فبقيت ساكنة، فتشجع وهبط بشفتيه على عنقها وأمعن في التهام الشرايين الحساسة تحت أذنها فبدت أمارات الاستجابة أخيرًا، إذ وضعت كفها على وجهه تقربه، برقة، من عنقها أكثر فأكثر، وتضغطه عليها. بلغ مؤشر الحرارة أوجه وجنَّ جنون اللمبات الصغيرة في كاسيت السيارة الفخيم، وعندما أخذت يده تنزلق من على صدرها نزولا حتى زرّ بنطالها الجينز تحله فالسوستة تفتحها، أفاقا بغتة على أشباح تدق على زجاج السيارة ووجوه والغة مخيفة تتطلع إليهما. ولم يكونوا سوى صلاح أبو حلاوة وخمسة من أصحابه. كان ذلك بعد شهور من واقعة عتاب فتاة الكبدة واللحم المفروم. وكان يونس وعاطف قد نجحا في الامتحانات نفسها، وبلغا الصف الثاني الثانوي (شعبة أدبي) بقدرة قادر.

نفدت حبات القرنفل المُسكّنة، واستيقظ الألم عفيًا أطار النوم وجعل أبو حلاوة يعضّ في البطانية الميري التي يرقد فوقها. وكأن سيخًا رفيعًا من حديد ينغرس في فكه الأعلى وحتى المخ. يسمع نبض قلبه في عظام وجهه كدقات ساعة طنانة فتطفر الدموع من عينيه رغمًا عنه. يدعو الله أن يأتي الصباح سريعًا، فيستيقظ السجن ويأتي له العم مصيلحي بحبات قرنفل جديدة أو قرص أسبرين أو ربما بخبر من الإدارة عن إحالته إلى المستشفى. ولكنه يعرف أن الله لن يلتفت إليه، وربما كانت تلك الآلام القاتلة تكفيرًا عن ذنوبه التي لا تحصى قبل أن يلقى وجه كريم، وعليه أن يعانيها للنهاية. ولكن ها هو الأمل يبتسم، ويستجيب الله لعبده الخطّاء، إذ انفتح باب الزنزانة بعد الفجر بقليل عن وجه عم مصيلحي وبجواره طبيب السجن في معطفه الأبيض؛ أخيرًا سيأخذونه إلى المستشفى. ولكن لماذا يجيء المأمور بنفسه أيضًا لهذا الشأن؟ ومن هؤلاء الضباط والرجال الآخرون في بدلهم الملكية؟ لا يستلزم التحويل إلى المستشفى كلّ هذه التشريفة! فهم الأمر بعد لحظة من وجوههم الجادة، وتراجع إلى عمق الزنزانة مذعورًا وخارت كل قواه. لم ينم طوال الليل. أمسكه عسكريان قويان من تحت إبطيه وأخرجاه  شبه محمول. احتضنه العريف مصيلحي على باب الزنزانة وربت على رأسه وقالاجمَد يا صلاح وخليك راجلكلها دقايق“. كان ألم الأسنان الممض قد طار تماما وتبخّر. ما من مسكّن أقوى من خوف بهذا الحجم.

بعد أربع سنوات من الواقعة التي هزت المجتمع المصري عام ١٩٨٥، أعاد المخرج سعيد مرزوق إنتاجها في فيلمهالمغتصبونمع تغيير لبعض التفاصيل كالأسماء والأماكن. احتفظ للمجرم الأول باسم عائلتهأبو حلاوةوغير اسمه الأول. لعبت دور الفتاة الضحية نجمة زمنهاليلى علوي“. وأراد المخرج، الذي عُرِفَ بتوجهه شبه النسوي، أن يجعل جسد المرأة نقطة ضعيفة تتقاطع عندها صراعات المجتمع وتردياته، كما سبق وقدم في أفلامه القديمة منذالخوف،مكان للحبوحتىالمذنبونومرورًا بـأريد حلاُالذي قيل وقتها إنه ساهم في تغيير قانون الأحوال الشخصية الظالم للنساء. ولكن السينمائي الطليعي القديم لم يتبق منه في هذا الفيلم سوى موسيقى تصويرية وضعها الملحن محمد هلال في محاكاة صريحة لألبومأوما جامالفريق الروك الإنجليزي الأشهر بينك فلويد، والذي كان مرزوق قد وظفه من قبل في فيلمهالخوفدون إشارة تحمي حقوق الملكية الفكرية ولو رمزيًا. جاء الفيلم متماشيا مع التيار الرئيسي لسينما الثمانينات في مصر. فلا هو اقترب من الموجة الطليعية التي كانت في ذروتها بأسماء كمحمد خان ورأفت الميهي وخيري بشارة وعاطف الطيب، ولا هو جنح ناحية سينما المقاولات الهزلية قليلة التكلفة. كان فيلما عاديا يمكن أن يخرجه أحمد فؤاد أو نادر جلال أو محمد عبد العزيز. استعان مرزوق لتجسيد عصبة المغتصبين بنجوم الصف الثاني السابق ذكرهم: حمدي الوزير ومحمد كامل وحسن العدل مع الممثل المخضرم محمد فريد. لعب محمد كامل دور المتهم الأول صلاح أبو حلاوة، الوحيد منهم الذي حُكِمَ عليه بالإعدام، وهو بالفعل يشبهه قليلا على الأقل في شاربه المستطيل، وإن كان كامل أطول كثيرًا وأقل شراسة في الملامح من أبو حلاوة الحقيقيثم بعد عامين لعب حمدي الوزير دور مغتصب آخر في فيلمقبضة الهلالي(عام ١٩٩١) من بطولة لاعب الكونغ فو يوسف منصور وإخراج إبراهيم عفيفي. بدا ذلك التسلسل انحدرًا في مسيرة حمدي الوزير الفنية من محمد خان وعاطف الطيب إلى إبراهيم عفيفي مخرج الأفلام الرخيصة، مرورا بسعيد مرزوق في لحظة تدهوره الفني. كما أدى تكراره لدور المغتصب في فيلمين تجاريين على التوالي إلى ترسيخ تلك الصورة عنه. حاول بعد ذلك، في عام ١٩٩٧ وفي احتفالية بالمسرح القومي لتأبين الكاتب السوري سعد الله ونوس، أن يستعيد صورة الممثل الجاد، فلعب دورا رئيسيا في مسرحيةطقوس الإشارات والتحولاتالتي أخرجها شقيقه حسن الوزير لهذه المناسبة، لكن العرض قُدِم بالتوالي مع نسخة أخرى للمسرحية ذاتها وعلى خشبة مسرح الأزبكية نفسه قدمتها فرقة مسرح المدينة اللبنانية من إخراج نضال الأشقر. كانت المقارنة بين العرضين مجحفةً، لا لحمدي الوزير وشقيقه فقط، لكن لكل تراث المسرح المصري العريق. وفشلت محاولة الوزير في إنقاذ مسيرته من بين براثن صورة المغتصب وطواه النسيان بعدها، خاصة مع اضمحلال صناعة السينما والدراما التلفزيونية في مصر، وظهور أجيال جديدة من الممثلين يفوقون كميًا حاجة السوق المنكمشة. حتى شاعت السوشيال ميديا جماهيريًا بالتزامن مع انتفاضات الطبقة الوسطى سياسيا على المستوى العربي. ومع تلك الوسائط ظهر جيل جديد من فناني الجرافيك والكاريكاتور والفيديو يتلاعبون بالصور ويخطفون معانيها لسياقات مختلفة فتتولد مفارقات مضحكة، ويتخلق نوع جديد من الكوميديا المكتومة. ضحكٌ كالبُكا لا من مرارة السخرية، لكن من توقف المفارقة عند درجة الصفر، من ارتدادها على ذاتها والتهام مُطلقها لنفسه مُلتفا وعالقًا في سخافته التي هي سخافة الحياة نفسها. كأنّه يقول لها ها هي بضاعتك أردّها إليك أيها المجتمع. وكأنها، إن صح التعبير، نوع منالكوميديا الدادئية“. وفي هذا السياق بُعثت صورة حمدي الوزير من جديد على السوشيال ميديا. صار أيقونة كوميدية عن المٌغتَصِب تطابقت مع أيقونة صلاح أبو حلاوة المنسية بعد إفراغها من محتواها المأساوي. أُخذت لقطة ثابتة له من فيلم قبضة الهلالي، وهو يلوي شفته العليا جانبًا ويغمز بإحدى عينيه، من مشهد يتوعد فيه غريمه في الفيلم يوسف منصور في إحدى المواجهات القتالية بينهما، ووظِّفت كاريكاتوريا في عشرات المفارقات بعد أن أُزيحت دلالتها من منطقة الحرب والشجار إلى المنطقة التي تخص فكرة الاغتصاب والذكورة والجنس. هي قصة عن الانزياح. تحرك حمدي الوزير من السينما الطليعية نحو سينما الأكشن التجارية، من ابن البلد الطيب إلى المغتصب، من المغتصب الثانوي ترقى إلى المغتصب الرئيسي ليزيح  محمد كامل في الذاكرة الشعبية الضعيفة. لقطة من فيلم قبضة الهلالي تشتهر باعتبارها لقطة من فيلم المغتصبون. وعاد حمدي الوزير إثر ذلك للظهور على شاشات التلفزيون في البرامج الحوارية، لا للحديث عن أدواره ولا عن نفسه كممثل، لكنه عاد كأحد نجوم السوشيال ميديا الشعبيين، كأحمد التباّع وسعيد الهوا والخليل كوميدي. وبدا غير مستاء، بل وسعيد بتلك التوظيفات الكاريكاتورية لصورته، فعلى الأقل أخرجته من أدراج النسيان. حتى ظنّ بعض الناس أنه يقف خلف تلك الحملة الكوميدية بنفسه، ليعود إلى الأضواء من جديد. ولكن أنى له بهذا الوعي الفائق، هو المنتمي لحقبة الثمانينيات الإشكالية، وأنى له بالقدرة على تطويع تلك الوسائل والوسائط المعاصرة لمصلحته!

قطع عاطف الضاحية بطولها سيرًا على الأقدام في ربع ساعة، من أقصى جنوبها حيث بيته، إلى أقصى شمالها حيث بيت يونس. يريد أن يعيد له كتابثرثرة فوق النيلحسب الاتفاق، فالرواية تخصّ والد يونس وهي من كتبه المفضلة، لكن بخلاف إعادة الكتاب كان توّاقا إلى أن يزفّ لصديقه بُشرى الخلاص. كان يونس قد نسي أمر أبو حلاوة منذ وقتها، ولم يندهش كثيرًا عندما تم القبض عليه مع الخمسة العاطلين الآخرين في القضية التي عرفت إعلاميا بقضية فتاة المعادي. لكن بالنسبة لعاطف، كان أبو حلاوة هاجسا يوميا منذ ليلة عتاب في الربيع الماضي. فعاطف هو من تهور وكاد أن يشتبك معه في منطقته وأمام بيته. وللحظ التعس فإن موقع بيت عاطف بنهاية شارع ١٥ يتاخم حدود طرة البلد وهو نقطة عبور شبه يومية لأبي حلاوة عند مروره بين الحيين خارجًا من طرة أو عائدًا إليها. وفي الأغلب، كان يصادف عاطف واقفًا في شباك غرفته كعادته، فيتوقف أمامه ويتأمله بابتسامة باردة ويمسد جانبي شاربه كمن يتوعده. كان عاطف يرد بابتسامة استهانة مناظرة، لكن مع الوقت تسرب إليه الخوف كمرض نبع من الداخل. تصاعد من هاجس بسيط حتى صار رعبا مقيمًا ، فأمسى يسارع بإغلاق النافذة ما إن يلمحه قادمًا. لم يكن يخشى شخصيًا من ذلك العرص، ففي اشتباك حقيقي وإذا سقطت الأحكام المسبقة قد يصرعه. وتذكر نصيحة عطوة صديقه حارس مرمى فريق المدرسة: إذا تشاجرتَ مع من هو أقوى منك لا تلتحم معه جسديا وناوله الضربات من بعيد، ركلا ولكما. ووفق سيناريو مماثل، ونظرًا لفارق الطول بينهما، فعاطف كان ليهزم أبو حلاوة لو أتيحت مثل تلك المواجهة، وواتته أثناءها سرعة بديهة المتشاجرين المهرة. لكن خوفه، وبشكل غامض، كان متعلقًا بأمه وشقيقته وببيتهم في العموم. لم يكن على يونس، لحسن حظه، أن يعاني من كل هذا؛ فنظرا لموقع بيته على الطرف الآخر من الضاحية، لم يصطدم بوجه أبي حلاوة منذ ليلة عتاب، إلا على صفحات الجرائد وفي التلفزيون.
جلس الاثنان في الشرفة المثلثة الملحقة بغرفة يونس، وقال عاطف إن أنيس زكي بطل ثرثرة فوق النيل شخصية مذهلة وإنه يفكر مثله تماما، لكنه كان يظنّ أن الناس في الستينات كانوا سعداء. قال يونس إن التعاسة قديمة. واتخذ الاثنان سمت كهلين عركتهما الحياة، وصمتا قليلا يتأملان الشارع في الأسفل. وجدها عاطف لحظة مناسبة ليلقي خبره السعيد، فقال: “مش أبو حلاوة خلاص! باي باي!” قال يونس :”غار في داهية، قريت في الجرنال النهاردة“. وفي لحظة تذكر الاثنان وجه عتاب دون اتفاق، وقال عاطف مقلدًا صوتها الأخن: “آكل كبدة، آكل سجق، لحمة مفرومة، فول بقوطةأي حاجةوبعد كدة اللي عايز يخلص يخلص“. وانفجرت ضحكاتهما في الشرفة.

 

حلمت أنني قابلت الفنان حمدي الوزير وجها لوجه في ذلك البار بوسط القاهرة الذي يديره رجل عراقي غامض. كان الفنان يجلس وقد شاخَ على طاولة اصطفت عليها أطباق شرائح الخيار والجبن البيض بالطماطم والفول النابت وأمامه زجاجة ستيلا من الطراز القديم سعة ٧٥٠ ملليلتر . كنت واقفًا أمامه كمتهم ماثل أمام وكيل نيابة وهو يجرع من البيرة ويقضم شرائح الخيار، ويتأملني بين الغضب والتهكم. قال ليتُنصّب نفسك مؤرخًا وناقدًا سينمائيا وأنت تزيف الأحداث وتغير الحقائق. قلت لهلستُ ناقدًا سينمائيًا ولا أرغب في كتابة أي تاريخ. أنا فقط أتأمل الأحوال وأصف الأفعال كما قال الشاعر، ولي فيها مآرب أخرى كما قال موسى النبي“. دعاني للجلوس وهم في بدء حجة جديدة، لكن الشلة كلها وصلت لحظتها، الفنانون أحمد عبد العزيز ومحمود مسعود ومحمد كامل وحسن العدل وحسن الوزير، فانشغل بأصدقائه، ووجدتها أنا فرصة وانسحبت خارجًا من المكان. استوقفني العراقي مدير البار عند الباب وقال:لم تدفع حسابك!قلتُ: ”لم أطلب شيئا والحساب عند الأستاذ حمدي“.

تذكر تقارير الطب الشرعي في عدد من الدول التي تُطبِق حُكم الإعدام شنقًا، أن نسبةً كبيرة من المشنوقين، إذ تسقط أجسادهم في البئر بعد فتح غطائها المعروف في لغة السجون المصرية بـالطبلية، وإذ تتدلى تفارقها الحياة ببطء، فإن الذكور تنتصب أعضاؤهم التناسلية لدرجة قذف المني عند الموت أو بعده بقليل. كذا المشنوقات من النساء، يعتورهن انتفاخ في الأعضاء التناسلية الخارجية كالشفرين والبظر. وفي إنجلترا القرن التاسع عشر، زمن تشارلز ديكنز، حين كان الإعدام شنقًا لا يزال معمولا به، سُميت هذه الظاهرة شعبيًا بـشهوة الملاك“. وهي الظاهرة التي يفسِّرها العلماء بتأثير ضغط حبل المشنقة على المخيخ. فإصابات المخيخ والحبل الشوكي،لدى الأحياء تصاحبها عادة حالة الانتصاب المتواصل والمؤلم المعروفة بالقساح. وأشهر حالاتشهوة الملاكفي تاريخ الطب الشرعي المصري، والتي أشار إليها المؤرخ الأديب صلاح عيسى رُصِدَت لدى المشنوقين الثلاثة محمد عبد العال وعرابي الصوامعي وعبد الرازق يوسف من الرباعي الذي شكل عصابة ريا وسكينة لقتل النساء وسرقة مصوغاتهن في الإسكندرية بين عامي ١٩١٩ و١٩٢٠. أما حسب الله مرعي رابعهم،  وزوج ريا، فلم يمرّ بهذه الخبرة لحظة إعدامه. وكان التفسير الشعبي لذلك وقتها هو انعدام رجولة حسب الله الذي كان معرّصًا قوادًا بالسليقة. ولأن ولدنا وابن مناطقنا صلاح أبو حلاوة مجرم محترم، ولا يقل جلاله الإجرامي في سجل الجنايات المصرية عن عرابي الصوامعي أو محمد عبد العال فمن المرجح أنه ختم تاريخه المشرف بشهوة الملاك، واستحق اغتسالاً رمزيًا لم ينله، إثر جنابة ما قبل الطبلية وجنابة ما بعدها.

دينا ربيع: ليلتان ونهار واحد

$
0
0

Ahmed Gaber, from “We, the Living Dead”. Source: arabdocphotography.org

ألهبت سياط الشمس وركي وقرحته المناخس، كان لزاما أن أصل إلى آخر الشارع المرصوف بالعرق وصدأ الحديد، قطعت نصفه ثم عنّ لي أن أتأكد من صواب وجهتي من جندي وراء مصفحة؛ لأنني لا أحب أن أمضي نصف يومي دعسا في الصدأ ونصفه الآخر في علاج أنفي من أثر الريح المنتنة سدى، ولأن المصفحة كانت أكبر من مثيلاتها في شوارع البلد وأكثر زرقة. في صحراء الحديد هذه أحب البحر.
الجندي في أذنيه وقر. سألني رجل مبعثر عن وجهتي، لم آبه لدعائه. التفتُّ عنه إلى الجندي، التفتَ عني إليه، ناداه: “يا باشا، أدركت سوء ما فعلت. انتبهت إلى عينيّ الباشا، أبصرت انكسارا، انتشيت وجريت.
الشيب في رأسي، والغَلَب في القلب. أطرق باب غرفته؛ ملاذي الأخير، أتجاهل تاريخهما وما لأثر ذكرياته معها على معدل إفراز الدوبامين في مخه عامدة، وأسأله بسذاجة أن يخليها إليّ. ينهرني، أعود إلى غرفتي، أغتسل بدمعي ومخاطي. أعاود الكرّة بعد خمس عشرة سنة، وأحصّل الرد ذاته، أكذّب رده وأصدق تلاقي طول أصابعنا.
كل محبيّ آباء منشغلون بأطفال آخرين. وأنت منشغل بلُبس أخريات تتعرّى منّي إليهن. حين تقلبني بين إصبعين من أصابعك أفكر أين كانا في جسد الأخرى، وحين تخفت نشوتك، أفكر إن كانت معها أكثر حمرة. ألومك على زجي في هذا السباق، وألوم نفسي. أقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك. حتى إذا أدرت ظهرك أتعلق بك كشمبانزي بأمه. أقول انظرني وأَشرِك معي في هذه نساء المجرات كلها. أهاتف نهى الروبوتية، وأحدد معها موعدا لحصة في علم التبلد. لا أذهب أبدا.
الليلة التي انتظرتها سبعة أشهر وصلت باهتة. أدّعي أني لا أحترق اشتياقا إلى لين جلده وجنّة عطوره، أعانقه عناق صديقين، تراقبنا عيون، يعانقني عناقا لاهيا، يخبط على ظهري كأني طاولة، يتكئ عليّ، وينفصل عني ومعه علق من روحي. أسأله متى تحبني، قليلا قليلا؟
يجلس قربي، أتأمل شفتيه، كيف لا تنبت لهما قرون استشعار تلتقط حريقي؟ ينقلب طبق السلاطة على ملابسه، تتبقع، ويسيل من أصابعه ماؤها. يسيل مائي، أود لو ألحس بقعه وأبلع أصابعه غير أن عيون الجلوس تقتل نزقي.
في سريري يرن هاتفه. أسمع اسمها، لا يؤجلها ولو لحظة شبقه معي. في سريرها يرن هاتفه باسمي، يؤجلني إلى يوم يبعثون. يقلل الصوت الصادر عن هاتفه. أسمعها، أعرف كل كلمة مما يقولان. يغلق هاتفه، ويواصل ادعاء محبتي، وأواصل محبته. قام عني سريعا، قلت له كم لبثنا؟ قال لبثنا شهرين متتابعين. غسل عنه رائحتي بالغسول الألماني النافذ، لم أبدل ثوبا خالطه عرقه ثلاثة أيام حسوما.
لا تروق له جنسيتي ولا سني ولا اندفاعي ولا تقهقر لحاقي بحريقه الخافت ولا أثر الرصاصة في ذراعي ولا ملمس دمي على إصبعه. على الحائط لمحت تذكارا منها. أعرف قصتها، ولي عينان تبصران وقلب يعرف المحبة حين يلقاها.
في كوب الشراب حشرة طافية، أنسى آلامها. أغفو ساعتين لأنسى ألمي ولكيلا أراك في صحوي، أجرع الشراب وأحسب احتمالات أن يقتلني سم حشرة في معدتي، وكذا محبتك ليوم أو بعض يوم.
عويت ليلتي هذه حتى طمأنني صباح بجواز زوال انفصالنا، تركني أعوي حتى مللت صوتي. هكذا يعالج أموري.
في الصباح تعطرت بعطر رجالي بحثا عن أبي. سقطت مفاتيحي في كومة، فتشت فيها، تربت يداي، سمعت همهمات ليس من بينها صوته الأليف. زاد عوائي، دخنت سيجارتي وشربت حليبي. اتفقت مع السيدة التي أنجبتني أن تعيدني إلى رحمها، وفي الليل جبنت.
لا أحب ملمس المستحضرات على وجهي، لكن أخفيت انتفاخا تحت عيني ذكرني بك، وتماس ملامحي مع ملامحك، وعطرا علق بشعري. وغيرت خط ابتسامتي إذ أشبه ميله انعدالك.
أستاذي الذي يكبرني بسنوات معدودات قرر أن يشهر سلطته في وجهي في التاسعة صباحا. لم يمنحني فرصة من تفاؤل بمطلع يوم جديد وتمني صباح الخير لرخام الجامعة. وسط خناقتي معه انتبهت رفيقتي لتدلي حلمتيّ، وهرعت إلى إدخال زر قميصي في عروته. لم تنتبه لدموعي واحمرار وجنتي واتساع حدقتي عيني وارتفاع صوتي وانقباض قبضتي.
الجامعة الرخامية المضاءة بالنيون الملون القبيح ميزانيتها على قدها. ملجأي الوحيد للبكاء كرسي مكسور بين دواليب القسم، تشكني مساميره النافرة في لحم فخذي فينهمر بكائي. أشكر حنكة الكرسي المكسور، يتحسن مزاجي. أمر على صاحب قيراط السلطة، أبتسم وأكمل يومي.
خطر لي أن جنة ما قد مست عقلي. قال لي رجل إن المجنون لا يدرك جنونه، هرعت إلى آخر أسأله، لم يرد. كيف يعرف الناس يقينا أنهم عقلاء؟ في صحوي كنت أجري إلى باب غرفتي، بعد يومين وصلت، لم تكن أصابعي في مكانها على راحة يدي، فتشت عنها، وجدتها في دُرج أختي من أمي وأبي، أخفتها عني وتركتني لحُمّى بحثي. الرجل الذي لم يرَ ما رأيت يدّعي أنه يعرفني. ذهبت إلى طبيبي، أخبرني بصوت كثلاجة الموتى أنني مصابة بمتلازمة كابغراس. في الليل غفوت ورأيتك تطرز اسمها على ذراع نظارتك المفضلة، أفقت وفي حلقي غصة لم تخفف مرارتها عصائر محلاة وحليب بالشوكولا وويسكي بالعسل.

مهاب نصر: الجنود يقتلون من وراء القصائد

$
0
0

Harry Gruyaert, Rajasthan. India, 1976. Source: magnumphotos.com

في أي ليلة نحن؟
عجوز جدا
وأخلط بين حياتي والشمس
التي تلف كتفي امرأة عاريتين
بين الشمس ويدي المرتعشتين فوق كلمات الكتب
بين الكتب والأشجار بسبب رائحة الجذور
حيث ستدفن روحي
بين روحي والشفة المطبوعة على زجاج مغبش
ببخار الأنفاس في ليلة باردة –
في أي ليلة نحن؟
في الشارع غاضبون كأحرف سوداء مائلة
لكن أي رواية كانت تلك؟
في الجريدة صورة شخص ما
أهذا يعني أنه مات
ولماذا لا أحلم به إذن؟
أنهض نصف عار
كقنطور
الخمر التي جرعتها أمس
هي الآن نصف رغبة
الباقي ثقل أحكه بأظافري لينهض
تأتيني الأفكار مثل منازل مكشوفة من الداخل
أسحب كرسيا وأنضم إلى مائدة
هذا صوتي.. انظرْ! الذي يكشف ساعده ويغرف
لا حاجة بي لأكتب
أنا ما كُتب فعلا
جلدي ينكمش كغلاف مسطور قديم
وهذا ما يجعلني شيطانيا
أثمة شياطين حقا؟
أنا عجوز وأخلط
والشمس تغرق فراشي كنهر
أنهض مغنيا بصوت امرأة أحببتها
ما بقي إلا أن ينبت لي ثديان
حياة
عشت حياتي كخنثى
كسعادة بلا رحم
يكفيها تربيتة على المؤخرة
لا أحب الذين يفكرون بالمستقبل

الذين يلوث دم حيضهم كل ما يلمسونه
الذين يتمغصون

بحجة أنهم “لا يجدون أنفسهم”
وكما الدم يعمّد أحلامهم

كذلك لا يعرفون البهجة
إلا كنوع من القتل
النعاس
يأتيني النعاس لا باعتباره يقظة أخرى، ليس على هيئة قارب ومجدافاه يدا الملاك، حيث نعبر بين أجساد الملاعين. يأتيني كجديلة خشنة لحبل يطوق المرساة. عيناي تقطران دما، وقلبي يخفق كصار ِ يئن. كل فكرة تخبط رأسي في رصيف ثم تنحسر ساحبة روحي إلى ظلمة. ينادونني خارج الغرفة: هل أنت بخير؟ لكنهم بعيدون جدا كحلم وأقول لنفسي: أنت نائم.. عليك ألا تنسى. حتى لو خرجت إليهم ليتأكدوا سيفضحك الحبل المشدود إلى مرساة. “أهذا بسبب الأفكار؟” يسألونك.. وتضحك كأنك في حلم، كأنك تعتذر عن حلم.
دولة الشعراء
في بلادي أرصفة خاصة بالشعراء
– صباح الخير
– صباح الخير
إنها حياة مثالية. أحيانا يتقدم طفل يجتاز الطريق بأعجوبة ويمسك بكم شاعر
ـ خذوني معكم
ليس لدينا أطفال، لكننا آباء الجميع. الدولة تعرف ذلك. الموظفون أيضا الذين يقولون: دعوا الطفال يشدوكم من أكمامكم.
أحيانا نثور. هذا ضروري جدا، لأن هناك ظلم؛ ظلم مروع وكئيب، ونحن يجب أن نتحدث عن الظلم، عن الانسان والظلم، عن الدولة والظلم، عن الفقر، يا الله!، ولكن من خلال رموز. لا، أحيانا ندعس الرموز.. واضحين كالوسخ.
أحيانا نخلع أحجار الرصيف، ونصنع صخبا هائلا. أحيانا نهدد. ماذا يعني الشعر، يا رب، إن لم يهدد؟! للأسف لا يفطن أبناء بلادي إلى هذا إنهم يهددون أيضا ولكن بطريقة أخرى. نحن لا نفهمهم وهم أيضا لا يفهموننا. إنهم أبناؤنا في النهاية، لكنهم حمقى وماكرون وشعراء بطريقة تثير التقزز، شعراء متنكرون يجعلون من وجودنا أضحوكة، شعراء جبناء وانتهازيون، شعراء أفسدوا اللغة نهائيا حتى إن الدولة عاجزة عن مطاردتهم. الدولة؟! الدولة أيضا شاعرة. الموظفون أنفسهم شعراء متدربون. وثائق الحكومات ليست أكثر من استعارات. الجنود يقتلون من وراء تلال من القصائد. الله في بلادي شاعر يبكي ويضرب. بلادي؟ إنها نفسها قصيدة لا يمكن ترجمتها. لن تتمكنوا من الحكم عليها أبدا. لا يمكنكم إلا ترديدها. هذا مرعب.. هه؟ لكن الرعب الحقيقي هو كتابتها من جديد.
قيامة
من خلال فكرة فقط يمكن أن تصبح القيامة نفسها حقيقية. يمكن أن يضع أحدهم قفلا على بابه، أو يتركه مفتوحا، لأن الطوفان قادم من أسفل، من المهانة التي لفكرة لم يصدقها أحد.
أريد
أريد أن أكتب قصيدة مثل الطلاء الجديد، تولد كل مرة بتلك اللمعة الوحشية التي تعرفونها، تلك الرائحة التي تشق الصدر، وأخيرا، بذلك الملمس الدهني المخادع لضغينة تنتظر تحت قشرة الكلمات. لا، ليس أخيرا. إذ يجب أن أقول: هذه القصيدة ينبغي أن تقرأ دون أن تتحرك الشفاه. ينبغي أن تقرأ بالحب نفسه الذي نسميه: إرادة النسيان. بينما نوقن أننا مقبلون على جريمة.
لماذا أذنان بالذات؟
لماذا أذنان بالذات؟ لماذا يا رب ليستا ثلاثا، عشرا، مائة حتى، ولكن في أماكن أخرى:
مكان الساعدين مثلا حتى نراهما بوضوح،
في المؤخرة مثلا حتى يرى من ودعناهم أننا ما زلنا نسمع
لماذا يا رب لا تذبلان مثلما يحدث لزهرة، ثم تولدان من جديد في جسد آخر لا نعرفه؟
لماذا إلى الخارج هكذا؟
آه.. لو كانتا مائلتين إلى الأمام قليلا مثل شراعين صغيرين حيث يقف الأنف في المقدمة مستطلعا كل ريح قذرة..
آه لو بالإمكان أن نريحهما في سرير صغير بجوارنا ثم ننام مع من نحب٠ آه..
لكنهما للأسف هناك دائما على جانبي الوجه كصفعتين، كفضيحيتين على الملأ نعيش فقط من أجل الاعتذار عن وجودهما الذي جعلنا دائماً مرتبكين، دائما محاولين أن نبدي التفهم لشيء لا نملكه في الحقيقة لكن آخرين ألصقوه بحياتنا كالعار.

𝐹𝑜𝓊𝓃𝒹 مشاهد ساخنة جداً

$
0
0
وأما نساؤهم عند الجماع. فإنهن في حكم الضباع. يدخلن الأفران. ويضرموا فيها النيران. ويعبق عليهم الدخان… ثم ينضجعوا إلى شيء من القش… ثم يضم زوجته إليه. وهي تتشقلب عليه. فيظهر من بين الاثنين. روائح الجلة والطين. وتعطيه رجليها. وينظر إلى عمشة عينيها. ويطرحها على جنبها. فتستغيث بربها. وتقول أحيه جتك داهيه أحّيه جتك مصيبه أحيه جتك غاره فغنجها بليّه. وجماعها رزيّه…

هباب فرن ابن عمي سود كحلاتك
وحبل طور ابن خالي كيف مدلاتك
يا من عجنتي قليبي في وحيلاتك
يا ريتني قرص جلة بين أدياتك
هذا القول العكيس. والنظم الخسيس. والمعاني الغلسه. والألفاظ النجسه… هو إن ثبتت أوزانه. وتخلبطت أركانه. فهو على أربعة أضرب مستخبطن خابطن مستخبطن خبطا وطوله باتفاق. من الخانكه لبولاق. وعرضه بيقين. من باب زويله لسويقة السباعين…
وعادة نساء الأرياف أنها تهوى الأفران لأجل تدميس الفول وطبيخ البيسار وتقمير الخبز وتنفيض الثياب من القمل ونحو ذلك فكانت هذه المحبوبة تحب تراكم الهباب عليها لكثرة اشتغالها بالخبز والطبخ فشبّه كحلاتها به لكونها دائما في هذه الحالة وهذا من باب قولهم سخام بهباب.
— من كتاب هز القحوف بشرح قصيد أبي شادوف ليوسف الشربيني

1680 (1858)

مذاق: نيل جايمان ترجمة هشام فهمي

$
0
0

Jim Goldberg, San Francisco, 2000. Source: magnumphotos.com

استغرقت مني هذه القصة أربعة أعوامٍ كاملة كي أفرغ منها، ليس لأني كنت أعمل على تحسين وتلميع كلِّ كلمةٍ استخدمتها فيها، بل لأني كنت أشعر بالإحراج. كنت أكتب الفقرة، ثم أدع القصة وشأنها إلى أن تزول الحُمرة من وجنتيَّ، وبعد أربعة أو خمسة شهور أخرى أعود لأكتب الفقرة التالية. هكذا مرَّ الوقت وعجزت عن إكمالها بغرض أن تُطبع في ثلاثة أجزاء متتالية لأنطولوچيا من أدب الخيال العلمي الإيروتيكي نشرتها صديقتي إلين داتلو كما كان مفترَضًا. على كلِّ حال، نُشرَت القصة أخيرًا، لكن معظم فكرتها كان قد جاء من تساؤلٍ لديَّ عن عدم تبادُل الشخصيَّات لأيِّ حوارٍ في الأفلام والكُتب عندما يتطارحون الغرام أو عندما يتنايَكون حتى. عن نفسي لا أعتبرها قصة إيروتيكيَّة، لكن بمجرَّد أن انتهيت منها أخيرًا، لم أعد أجدها محرِجةً.

الوشم المرسوم على عضده كان لقلبٍ صغير ملوَّن بالأزرق والأحمر، وتحته رُقعة الجِلد الملتهِبة التي كان يُزيِّنها الاسم الممحو.
كان يلعق حلمتها اليُسرى على مهلٍ، بينما تداعب يده اليُمنى مؤخِّرة عنقها، عندما سألته: «ماذا بك؟».
رفع عينيه إليها وقال: «ماذا تعنين؟».
– «تبدو كأنك… لا أدري… في مكانٍ آخر». تقولها، ثم تتأوَّه بعد لحظةٍ وتضيف: «ما تفعله الآن جميل جدًّا».
كانا في جناحٍ بفندق، جناحها هي بالتحديد، وكان يعرف من تكون وتعرَّفها من النظرة الأولى، لكنهم حذَّروه من أن يستخدم اسمها.
رفع رأسه لينظر في عينيها، وزحف بيده إلى نهدها. كانا عاريي الجذع كلاهما، وترتدي تنورة من الحرير ويرتدي البلو چينز.
– «ها؟».
وضع فمه على فمها وتلامست شفاهما وتعانق اللسانان، ثم إنها أطلقت زفرة وتراجعت إلى الوراء قائلةً: «ماذا بك إذن؟ ألا أروقك؟».
ابتسم مُطَمئِنًا وقال: «تروقيني؟ إنك رائعة»، وضمَّها إليه بقوَّة، ثم ضمَّت يده نهدها الأيسر وبدأت تعتصره ببطء، فأغلقت عينيها وكرَّرت: «إذن ماذا بك؟».
– «لا شيء إطلاقًا. كل شيء رائع. أنت رائعة، وجميلة جدًّا».
– «كان طليقي يقول إنني أستغلُّ جمالي»، ومرَّرت ظهر يدها على وجه سراويله من أعلى إلى أسفل، فضغط نفسه عليها مقوِّسًا ظهره وهي تُردِف: «لعله كان على حق».
كانت تعرف الاسم الذي قاله لها، لكنها واثقة بكونه مستعارًا، مجرَّد زينة، ولا ترغب في مناداته به.
مسَّ وجنتها، ثم عاد بفمه إلى الحلمة، وهذه المرَّة أخذ يُحرِّك يده بين ساقيها وهو يلعق. كان للحرير ملمس ناعم على يده، ثم إنه ضمَّ أصابعه على عظمة العانة وزاد الضغط بتؤدة.
– «هناك شيء ما يدور في رأسك الأشقر الجميل هذا. متأكِّد أنك لا تريد الكلام عنه؟».
– «إنها مجرَّد مسألة سخيفة. كما أنني هنا من أجلك، لا من أجلي أنا».
حلَّت أزرار سراويله، فاعتدل على ظهره وأنزلها إلى كاحليه لتسقط على الأرض إلى جوار الفراش. كان يرتدي ثوبًا داخليًّا قرمزي اللون، وقضيبه المنتصِب بارز من تحت قماشه الخفيف. بينما كان يخلع السراويل عن قدميه، خلعت هي قرطيها المصنوعين من حلقات الفضَّة المتداخلة، ثم وضعتهما بحِرصٍ إلى جوار الفراش.
فجأةً أطلق ضحكة عالية، فسألته باستغراب: «ماذا هناك؟».
أجابها مبتسمًا: «مجرَّد ذكرى عن الستريپ پوكر. عندما كنت مراهقًا في الثالثة أو الرابعة عشرة تقريبًا، اعتدنا أن نلعب الستريپ پوكر مع بنات الجيران، وكنَّ دومًا يجلبن معهن ذخيرة من الإكسسوارات السخيفة؛ قلادات وسلاسل وأقراط ووشاحات، أشياء من هذا القبيل. هكذا حين تخسر الواحدة منهن ويُصبح عليها أن تخلع قطعة من ثيابها، فإنها تخلع قِرطًا أو سوارًا أو ما شابه. هكذا تمرُّ عشر دقائق على بدء اللعبة، فتجدين الصِّبية وقد خسروا معظم ثيابهم ويجلسون بخزي، بينما تظل كلُّ واحدةٍ منهن محتفظة بثيابها كاملةً».
– «لماذا كنتم تلعبون معهن إذن؟».
– «الأمل، الأمل في أن تأتي مرَّة ونرى لمحةً من شيءٍ ما، أيِّ شيء».
– «وهل فعلتم؟».
سحب يده واعتلاها وبدأ يُقبِّلها، وتقابل ملتقَى ساقيه بملتقَى ساقيها في حركاتٍ ناعمة، بينما اعتصرت يداها فلقتي مؤخِّرته.
– «لا، لكن الحُلم لا ينتهي».
– «وما السخيف في هذا؟ ولِمَ تظن أني لن أفهمه؟».
– «لأنها حماقة، ولأني لا أعرف فيم تُفكِّرين».
سحبت ثوبه الداخلي إلى أسفل، ومرَّرت سبابتها على جانب قضيبه قائلة: «كبير فعلًا، تمامًا كما قالت ناتالي».
– «حقًّا؟».
– «لست أول من تقول لك هذا طبعًا».
– «طبعًا».
حنت رأسها وقبَّلت القضيب من أسفل حيث تنتهي غابة الشعر الذَّهبي، ثم قطَّرت القليل من لعابها عليه وجرت بلسانها على طوله، قبل أن تتراجع وتحدِّق إلى عينيه البنيَّتين بعينيها الزرقاوين.
– «لا تعرف فيم أفكِّر؟ ما معنى هذا؟ وهل تعرف ما يُفكِّر فيه الآخرون عادةً؟».
هزَّ رأسه لا نفيًا ولا إيجابًا وقال: «ليس بالضبط».
قالت: «احتفظ بهذه الفكرة في رأسك حتى أعود».
ثم نهضت ودخلت الحمَّام وأغلقت الباب خلفها، وإن لم توصده. جاء صوت البول من الداخل وهو يسقط في المرحاض، وخطر له أن هذا استغرق منها وقتًا أطول من اللازم. ثم إنه سمع صوت السيفون يُشَد، ثم صوت حركة في الحمَّام، خزانة تُفتَح وتُغلَق، ثم المزيد من الحركة.
فتحت الباب وخرجت عارية تمامًا، وللمرَّة الأولى بدت كأنها تشعر بشيءٍ من الخجل. كان هو يجلس -عاريًا أيضًا- على الفراش، شعره أشقر قصير جدًّا. مع دنُوِّها منه مدَّ يديه وحطَّهما على خاصرتها وجذبها إليه. كان رأسه الآن مقابلًا لسُرَّتها، فلعقها ثم نزل برأسه إلى ما بين ساقيها، ودفع لسانه بين الشِّفْرين الطويلين وبدأ يُدوِّر لسانه ويلعق.
وبدأت أنفاسها تتسارَع…
أدخل إصبعًا فيها بينما داعب اللسان البَظْر فوجدها مبتلَّة بالفعل، وانزلق الإصبع إلى الداخل بنعومة. نزل بيده الأخرى على ظهرها حتى استدارة ردْفها، وتركها تستريح هناك.
– «هل تعرف ما يفكِّر فيه الآخرون دائمًا إذن؟».
جذب رأسه إلى الخلف وعصيرها على شفتيه، وقال: «إنها مسألة حمقاء، صدِّقيني، ولا أريد أن أتكلَّم عنها. ستحسبينني مختلًّا».
مدت يدها إلى أسفل ورفعت ذقنه وقبَّلته. عضَّت شفته لكن ليس بقوَّة، ومطَّتها بأسنانها.
– «أنت غريب الأطوار بعض الشيء، لكني أحبُّ كلامك… وأريد أن أعرف ماذا بك يا قارئ الأفكار».
وجلست إلى جواره على الفراش، فقال: «نهداك جميلان حقًّا».
أطلقت تنهيدة تبرُّم، وردَّت: «لم يعودا كما كانا… لكن لا تُغيِّر الموضوع».
عاد يستلقي على الفراش قائلًا: «لا أقرأ الأفكار بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن بشكلٍ ما. عندما أكون في الفراش مع امرأة، فإنني أعرف ما ترغب فيه بالضبط».
اعتلته وجلست على بطنه قائلةً: «أنت تمزح».
– «لا».
داعب البَظْر بلُطف، فتأوَّهت وتلوَّت مغمغمةً: «هذا جميل»، ثم تراجعت إلى الوراء بعض الشيء لتجلس على قضيبه مباشرةً، وبدأت تُحرِّك نفسها عليه.
– «أعرف… عادةً ما… هل تعرفين كم يصعب عليَّ التركيز وأنت تفعلين هذا؟».
– «تكلَّم… كلِّمني».
– «ضعيه داخلك».
مدَّت يدها وأمسكت قضيبه، ورفعت نفسها إلى أعلى قليلًا، ثم جثمت عليه مرَّة أخرى مُلقِّمةً الرأس بداخلها، فقوَّس ظهره إلى الخلف ودفع قضيبه إلى الداخل. أغلقت عينيها لحظات، ثم فتحتهما وقالت: «فلتتكلَّم إذن».
– «أثناء المضاجَعة، وحتى قبل أن نبدأ، أجدني أعرف أشياء… أشياء من المفترَض أني لا أعرفها ولا وسيلة لمعرفتها، بل وأشياء لا رغبة لديَّ في معرفتها. اعتداء جسدي، إجهاض، جنون، زنا محارِم. أعرف إن كانت من معي إنسانة ساديَّة أو تسرق من رئيسها في العمل».
– «أعطني مثالاً».
كان بداخلها تمامًا الآن، يدفع ويسحب ببطء، ويداها مستريحتان على كتفيه، ومالت هي بوجهها إلى أسفل لتلثم شفتيه.
– «لا يختلف الأمر كثيرًا عن الجِنس نفسه. عادةً ما أجدني أعرف ما أفعله في الفراش مع النساء. لا أضطر لأن أسألهن عما يردنه، بل أعرفه فحسب. أعرف إن كانت تريد أن تعتليني أم أعتليها، إن كانت تُفضِّل وضْع السيِّد أم العبد، إن كانت تريدني أن أهمس لها مرَّة بعد مرَّة أنني أحبها أم تريد أن تبول داخل فمي. فقط أصير ما تريد، ولهذا السبب… چيسس! لا أصدِّق أنني أخبرك بهذا حقًّا… لهذا السبب امتهنت هذه المهنة».
– «نعم. إن ناتالي تحلف بك فعلًا. هي من أعطتني رقمك».
– «ناتالي رائعة حقًّا، وفي صحَّة ممتازة بالنسبة لعمرها».
– «وما الذي تحبه ناتالي؟».
قال مبتسمًا: «هذا سِر المهنة، وقد أقسمت على الكتمان».
قالت: «انتظر»، ثم نزلت من عليه وجثت على ركبتيها وانحنت مضيفةً: «أفضِّل من الخلف».
قال بشيءٍ من الضِّيق: «كان يجدر بي أن أعرف هذا»، ثم نهض ووضع نفسه وراءها. مرَّر إصبعه على الجِلد الناعم الذي يُغطِّي عمودها الفقري، ووضع يده بين ساقيها، ثم أمسك قضيبه ودفعه في فرجها من الخلف وهي تقول: «بمنتهى البطء».
حرَّك وَركيه دافعًا نفسه داخلها، فشهقت.
سألها: «هكذا؟».
– «لا. إنه يؤلمني قليلًا عندما يدخل كله. لا تفعل هذا المرَّة القادمة. إذن فأنت تعرف أشياء عن النساء اللاتي تنام معهن، فماذا تعرف عني؟».
– «لا شيء مميَّزًا. أحبُّ أفلامك كثيرًا».
– «دعك من المجاملات الفارغة».
كان أحد ذراعيه يُطوِّق نهديها، بينما مسَّ شفتيها بيده الأخرى، فأخذت تمُص إصبعه السبابة وتلعقه.
– «حسن، لست معجبًا كبيرًا بأفلامك، لكني شاهدتك في برنامج (لترمان) وخطر لي أنك جميلة ومرِحة حقًّا».
– «أشكرك».
– «لا أصدِّق أننا نفعل هذا الآن».
– «تقصد النَّيك؟».
– «لا، الكلام في أثناء النَّيك».
– «أحبُّ الكلام في أثناء النَّيك. يكفي هذا الوضع، فقد بدأت ركبتاي تؤلماني».
سحب نفسه من داخلها، وعاد يجلس على الفراش وهي تسأله: «إذن فأنت تعرف ما تُفكِّر فيه النساء وما يُفضِّلنه في الفراش. وماذا عن الرجال؟».
– «لا أدري. لم أنم مع رجالٍ قَط».
تفرَّست في ملامحه وهي تضع إصبعها على جبهته، ثم تُمرِّره على وجهه حتى ذقنه مرورًا بعظمة وجنته، وتقول: «لكنك وسيم جدًّا».
– «شكرًا».
– «وبائع هوى!».
– «مُرافِق!».
– «ومغرور أيضًا».
– «ربما. ألستِ كذلك عن نفسك؟».
ابتسمت وقالت: «بصرة! إذن فأنت لا تعرف ما أريده الآن».
– «نعم، لا أعرف».
نامت على جانبها قائلةً: «ضع واقيًا ذَكريًّا وضاجعني من الخلف».
– «ألديك زيوت؟».
– «في الدُّرج إلى جوار الفراش».
أخرج الواقي الذَّكري والچل من الدُّرج، وركَّب الأول على قضيبه قائلًا: «أكره الواقيات الذَّكريَّة لأنها تصيبني بالحكَّة. لكني نظيف تمامًا من أيِّ أمراض. لقد أريتك الشهادة».
– «لست مهتمَّة».
– «خطر لي فقط أن أذكُر هذا لا أكثر».
دهن الچل حول وداخل فتحة شَرَجها، ثم وضع قضيبه داخلها، لكنه توقَّف عندما أطلقت أنَّة، وسألها: «جيِّد هكذا؟».
– «نعم».
أخذ يهتز إلى الأمام والخلف دافعًا نفسه داخلها أكثر، وظلَّت هي تُطلِق صوت نخيرٍ منتظم وهو يفعل هذا مدَّة دقائق قليلة، قالت بعدها: «هذا يكفي».
سحب نفسه خارجها، فنامت على ظهرها وخلعت الواقي الذَّكري الملوَّث عن قضيبه وألقته على السجَّادة قائلة: «يمكنك أن تقذف الآن».
– «لست مستعدًّا بعد، كما أننا يمكننا الاستمرار ساعات».
قالت: «لست مهتمَّة»، ثم ابتسمت له وأضافت: «والآن، أريدك أن تقذف على بطني، الآن».
هزَّ رأسه بحيرة، لكن يده كانت تداعب قضيبه بالفعل، ثم بدأت تهزُّه بعنف، إلى أن تدفَّق منه القذف تاركًا خطًّا طويلًا لامعًا على بطنها وثدييها، فمدَّت يدها وأخذت تُمسِّد بشرتها بالسائل اللبني بتراخٍ، وبعد قليل قالت له: «يمكنك أن تغادر الآن».
– «لكنك لم تبلغي الذُّروة. ألا تريدين هذا؟».
– «لقد حصلت على ما أردت».
هزَّ رأسه حائرًا مرَّة أخرى، ورمق قضيبه المنكمش المترهِّل، ثم غمغم: «كان يجدر بي أن أعرف. لكني لا أعرف. لا أعرف أيَّ شيءٍ الآن».
– «ارتدِ ملابسك واخرج».
بدأ يضع ملابسه بالترتيب، بدايةً بزوج الجوارب، ثم مال عليها يُقبِّلها، لكنها أبعدت رأسها عنه وأشاحت بوجهها قائلةً: «لا».
– «هل سأراكِ مرَّة أخرى؟».
هزَّت رأسها نفيًا وأجابت: «لا أظنُّ».
كان يرتجف الآن…
– «وماذا عن المبلغ؟».
– «حاسبتك بالفعل عندما جئت. ألا تذكُر؟».
هزَّ رأسه بعصبيَّة، كأنه لا يذكُر فعلًا لكنه لا يجرؤ على الاعتراف بهذا. ثم إنه ربَّت على جيوبه حتى وجد المظروف المنتفخ داخل أحدها، فهزَّ رأسه ثانيةً وتمتم: «هذا الخواء الذي أشعر به…».
كانت نبرته شديدة الكآبة، أما هي فلاحظت بالكاد عندما غادر الغرفة.
تمدَّدت على الفراش واضعةً يدها على بطنها التي تحتضر عليها حيواناته المنويَّة الباردة الآن، وبدأت تسترجع مذاقه في عقلها.
تذوَّقت كلَّ امرأةٍ نام معها. تذوَّقت ما فعله مع صديقتها وابتسمت لانحرافات ناتالي الصغيرة. تذوَّقت اليوم الذي طُرِد فيه من وظيفته الأولى، وتذوَّقت النهار الذي استيقظ فيه وهو لا يزال ثملًا في سيَّارته وسط حقل ذُرة، قبل أن يُقسم ألا يمس شرابًا آخر ثانيةً. تذوَّقت اسمه الحقيقي، والاسم الذي كان موشومًا على ذراعه تحت القلب، ولِمَ لم يعد من الممكن أن يكون موجودًا هناك. تذوَّقت لون عينيه من الداخل، وارتجفت للكابوس الذي رأى نفسه فيه مُجبَرًا على أن يحمل سمكة شائكة بفمه، ثم استيقظ شاعرًا بالاختناق ليلة بعد ليلة. تذوَّقت ما يجوع له من الأطعمة والقصص الخياليَّة، واكتشفت سماءً مظلمة جلس تحتها وهو بعدُ غلام يُحدِّق إلى النجوم متعجِّبًا من كثرتها وكثافتها، على الرغم من أنه نسي هذا تمامًا.
حتى في أتفه الذكريات وجدت بعضًا من الكنوز. كان يملك شيئًا من هذه الموهبة بالفعل، لكنه لم ينجح في فهمها قَط، ولم يستخدمها إلا أثناء الجِنس. تساءلت -وهي تسبح بين ذكرياته وأحلامه- إن كان سيفتقد هذه الذكريات والأحلام، إن كان سيلاحظ أنه نسيها أصلًا.
هكذا بلغت هي النشوة مُطلِقةً موجاتٍ من الوميض الأبيض أخرجتها من ذاتها وأدخلتها في مِيتة صغيرة حيث كل شيءٍ في أبهى حال.
تناهى إلى مسامعها صوت اصطدامٍ من الزقاق المجاور للفندق. لا بد أن أحدًا صدم صندوق قمامة.
اعتدلت جالسة ومسحت البقايا اللزجة عن بشرتها، ثم -دون أن تغتسل- بدأت ترتدي ملابسها ببطء، بدايةً بثوبها الداخلي القطني الأبيض، ونهايةً بقرطيها الفضيَّين.

أحشاء: هشام فهمي يترجم تشاك پولانِك

$
0
0

Bruno Barbey, Réunion, 1991. Source: magnumphotos.com

شهيق.
التقِط كلَّ ما تقدر عليه من الهواء.
لن تستغرق هذه القصَّة أكثر من المُدَّة التي تستطيع أن تحبس خلالها أنفاسك، ثم ما يزيد على هذا بقليل، لذا أرجوك أن تسمعها بأسرع ما يُمكنك.
صديق لي كان في الثالثة عشرة من عُمره عندما سمع بتكنيك غرس الوتد، أي عندما يدسُّ الرجل قضيبًا صناعيًّا في مؤخِّرته، ويحثُّ غُدَّة المثانة بالقوَّة الكافية، ليصل إلى ذُروةٍ متفجِّرة مرَّاتٍ ومرَّاتٍ دون أن يستخدم يده. هذا الصديق في تلك السِّن مهووس بالجنس، يبحث دائمًا عن سُبل أفضل للاستمناء. يخرج ليشتري جزرة وعلبة من الڤازلين ليُجري بحثًا خاصًّا صغيرًا، ثم يتخيَّل كيف سيبدو الأمر للواقفين في الطابور عندما يذهب لدفع الحساب ومعه الجزرة الوحيدة والڤازلين، والكلُّ ينظر إليه متخيِّلًا الليلة الكبيرة التي يُخطِّط لها. هكذا يبتاع صديقي القليل من الحليب والبيض والسُّكَّر مع الجزرة – وكلها مقادير لصُنع كعكة جزر لا بأس بها – والڤازلين بالطبع.
كأنه سيعود إلى المنزل ليضع كعكة جزر في مؤخِّرته.
في البيت ينحت الجزرة إلى أن تصبح أداةً غير حادَّة، ثم يدهنها بالڤازلين ويدسُّها في مؤخِّرته… ثم لا شيء، لا ذُروة، لا شيء هنالك إلَّا الألم.
ثم إن أم الفتى تُنادي من الطابق السُّفلي قائلةً إن العشاء جاهز، فلينزل الآن فورًا.
يُخرِج الجزرة من مؤخِّرته، ثم يُخفي الشيء اللزج القذر بين ملابسه المتَّسخة تحت الفِراش.
بعد العشاء يعود إلى الجزرة ليجدها اختفت. لا بُدَّ أن أمه أخذت ملابسه المتَّسخة كلها لتغسلها وهو يتناول العشاء، وليس من الممكن ألا تَعثُر عليها منحوتة مشذَّبة بسكِّينٍ من مطبخها، لا يزال الڤازلين حولها يلمع ولا تزال رائحتها نتنة.
ينتظر صديقي هذا شهورًا طويلة وسحابة سوداء تُظلِّل حياته منتظرًا أن يُواجِهه والداه، لكنهما لا يفعلانها أبدًا. حتى يومنا هذا، وقد أصبح رجلًا بالغًا، ما زال يرى الجزرة الخفيَّة مُعلَّقة فوق كلِّ عشاءٍ تُقيمه العائلة في الكريسماس، فوق كلِّ حفلة عيد ميلاد، في كلِّ حفلةٍ لصيد بيض عيد الفصح مع أطفاله، مع أحفاد والديه… وشبح الجزرة ما زال يحوم حولهم جميعًا. إن هذا لَشيء ألعن من أن يكون له اسم.
في فرنسا لديهم تعبير اسمه ”فِطنة السلالم“، ويعني تلك اللحظة التي تجد فيها الإجابة على شيءٍ ما، وإنما بعد فوات الأوان. لنفترض أنك في حفلةٍ ما ويهينك أحدهم على مرأى ومسمعٍ من الجميع. حينها لا بُدَّ أن تقول شيئًا، أن تردَّ الإهانة، لكنك تحت ضغطٍ والكلُّ ينظر إليك، وهكذا تردُّ بشيءٍ سخيف.
لكن لحظة أن تغادر الحفلة…
ما إن تضع قدمك على الدرجة الأولى من السُّلَّم يبدأ السِّحر!
فورًا يَخطُر لك القول المثالي الذي كان حريًّا بك أن تردَّ به، الرَّد الذي كان من شأنه أن يُخرِس مهينك تمامًا.
تلك هي روح السلالم.
المشكلة أن حتى الفرنسيين لا يملكون تعبيرًا للأشياء الغبيَّة التي تقولها تحت ضغط، تلك الأشياء الحمقاء اليائسة التي تقولها أو تفعلها.
مِن الأفعال ما هو أوضع من أن يكون له اسم، أوضع من أن يتكلَّم الناس عنه.
يقول خبراء نفسيَّة الأطفال والاختصاصيُّون الاجتماعيُّون الآن إن أغلب حالات انتحار المراهقين المسجَّلة مؤخَّرًا كانت من صِبيةٍ يُجرِّبون الاختناق في أثناء الاستمناء. هؤلاء يَعثُر عليهم أهلهم بمنشفةٍ ملفوفةٍ حول العُنق ومعلَّقة بمشجب خزانة غرفة النوم، والصبي نفسه ميت. السائل المنوي الميت في كلِّ مكان. طبعًا يُنظِّف الأهل المكان، وطبعًا يُلبِسون الصبي سروالًا، يجعلون المشهد يبدو… أفضل، أو مقصودًا على الأقل؛ النوع المعتاد من انتحار المراهقين التعساء.
صديق آخَر لي في المدرسة روى له أخوه الأكبر جندي البحريَّة أن الذكور في الشرق الأوسط يستمنون بطريقةٍ مختلفةٍ عنا هنا. هذا الأخ كان متمركزًا في واحدةٍ من الدول ذات الجِمال، حيث تبيع الأسواق العامَّة ما يمكن أن يكون فتَّاحات خطاباتٍ أنيقة. كلُّ واحدةٍ من هذه عبارة عن عصا رفيعة من النحاس الأصفر أو الفضَّة المصقولة بطول يدك تقريبًا، في أحد طرفيها كرة معدنيَّة كبيرة أو شيء ما يُشبِه المقابض المنحوتة الأنيقة التي تراها في السيوف.
يحكي ذلك الأخ جندي البحريَّة كيف ينصب الذَّكر العربي قضيبه، ثم يُدخِل تلك العصا من فتحة القضيب بطوله، ويستمني والعصا بالداخل، وهو ما يزيد اللَّذَّة ويجعلها أشد.
إنه الأخ الأكبر الذي يسافر حول العالم ويُرسل العبارات الفرنسيَّة والروسيَّة ونصائح الاستمناء.
بعد ذلك يأتي يومٌ لا يذهب فيه الأخ الأصغر إلى المدرسة، وفي تلك الليلة يتَّصل بي طالبًا أن أساعده في واجبه المنزلي طوال الأسبوعين التاليين لأنه في المستشفى.
يتقاسم هذا الصديق الغُرفة مع مجموعةٍ من المُسنِّين الخاضعين لعمليَّات في أحشائهم، ويحكي كيف أنه يضطرُّ إلى مُشاهدة برامج التليفزيون نفسها معهم، وأن كلَّ ما يُوَفِّر له شيئًا من الخصوصيَّة هو ستارة وحيدة. أهله لا يأتون لزيارته، وعلى الهاتف يقول لي إن والديه على وشك قتل أخيه الكبير جندي البحريَّة.
على الهاتف يقول لي كيف كان مسطولًا بعض الشيء، وفي المنزل في غرفة نومه كان نائمًا على بطنه مُشعِلًا شمعةً ويتصفَّح بعض مجلات الپورنو القديمة استعدادًا للاستمناء. كان هذا بعد أن سمع ما لدى أخيه جندي البحريَّة بالطبع عن تلك المعلومة المفيدة عن كيفيَّة استمناء العرب. ينظر الفتى حوله باحثًا عن شيءٍ ما يصلح لأداء الغرض. قلم الحبر الجاف أكبر من اللازم، والقلم الرصاص كبير وخشن، لكن على جانب الشمعة يسيل خيط ناعم رفيع من الشمع قد يكون مناسبًا. هكذا بطرف إصبعٍ واحد يخلع خيط الشمع الطويل من الشمعة، ويلفه بنعومة بين راحتيه ليصبح أطول وأنعم وأرفع.
الفتى، مسطولًا هائجًا، يُدخِل العود الشمعي عميقًا في فتحة البول في قضيبه، ويترك طولًا لا بأس به منها بالخارج، ثم يبدأ.
حتى الآن يقول إن هؤلاء الذُّكور العرب في غاية الذكاء. لقد أعادوا اختراع الاستمناء بالكامل.
هكذا يتمدَّد على ظهره في الفراش. هكذا تبدأ أشياءَ رائعة في الحدوث ولا ينتبه هو إلى عود الشمع. إنه على بُعد ضغطةٍ واحدةٍ أخيرة من خروج المَنِي، عندما يُدرِك أن لا شيء من الشمع تبقى خارج قضيبه.
عود الشمع الرفيع انزلق كله إلى الداخل على عُمقٍ يجعله لا يشعر به في أنبوب البول الآن.
من الطابق السفلي تُنادي أمه قائلةً إن العشاء جاهز، فلينزل الآن فورًا. فتى الشمع وفتى الجزرة شخصان مختلفان تمامًا، لكننا نعيش الحياة نفسها على كلِّ حال.
بعد العشاء تبدأ أحشاؤه في أن تؤلمه. إنه شمع، ومن ثم فقد خمَّن أنه سيذوب في داخله ويخرج مع فضلاته. الآن يؤلمه ظهره وتؤلمه كليتاه ولا يستطيع الوقوف باستقامة.
يتكلَّم الفتى على الهاتف في المستشفى، وفي الخلفيَّة يُمكِنك سماع صوت أجراسٍ وصياح. البرامج الرياضيَّة تلك!
تُبيِّن الأشعة السينيَّة الحقيقة: شيء ما طويل ورفيع ملوي داخل مثانته، ذلك الشيء يجمع كلَّ المعادن في بوله ويزداد حجمه وخشونته مع الوقت وتغطيه بلورات الكالسيوم، يتحرَّك هنا وهناك ممزِّقًا بطانة المثانة ومانعًا أيَّ بولٍ من الخروج. الآن كليتاه مسدودتان تمامًا، والقليل الذي يتسرَّب من فتحة البول مصطبِغ بالأحمر القاني.
ذلك الفتى وأهله كلهم ينظرون إلى صورة الأشعَّة ومعهم الطبيب والممرِّضات، وقطعة الشمع تتألَّق بالأبيض ليراها الجميع. عليه أن يقول الحقيقة، عليه أن يُخبِرهم كيف يستمني العرب كما كتب له أخوه جندي البحريَّة.
الآن على الهاتف يبدأ الفتى في البكاء.
دفع أهله تكلفة جراحة المثانة من المبلغ المدَّخر لتعليمه الجامعي. لقد ارتكب خطأ واحدًا غبيًّا، والآن لن يصبح محاميًّا أبدًا.
أن تدسَّ أشياءَ في نفسك، أن تدسَّ نفسك في أشياءَ، شمعة في قضيبك أو رأسك في أنشوطة، كلنا يعرف أن هذا سيتسبَّب في مشكلةٍ كبيرة.
الشيء الذي أوقعني أنا في مشكلة أحبُّ أن أسمِّيه ”لآلئ الغوص“، أي الاستمناء تحت الماء في أثناء الجلوس في قاع الركن الأقصى من حوض سباحة أبوَي. بنَفَسٍ واحدٍ عميق أغوصُ إلى القاع وأخلعُ ثوب السباحة، وهناك أجلسُ دقيقتين، ثلاث دقائق، أربع دقائق.
فقط من ممارسة هذا تحت الماء أصبحت لديَّ سعة رئويَّة عالية، وكنتُ لأفعل هذا طوال الظهيرة لو كان المنزل خاليًا. بعد أن أنتهي، أرى القذف طافيًا في كُتَلٍ لبنيَّة كبيرة، وهكذا أعاودُ الغوص لأجمعه كله وأمسحه في منشفة. لهذا أفضِّلُ اسم لآلئ الغوص. حتى مع الكلور الذي يُنظِّف الحوض ما زالت هناك نسبة من القلق على أختي… أو على أمي!
كان ذلك أسوأ مخاوفي في العالم: أختي المراهقة العذراء تحسب أنها أصبحت بدينة فقط، ثم إذا بها تلد طفلًا معاقًا ذا رأسين كلاهما يُشبهني أنا، الأب والخال.
لكن المشكلة أن ما يُقلِقك ليس ما ينال منك في النهاية.
أفضل ما في تكنيك لآليء الغوص هو تلك الفتحة التي تُفضي إلى مصفاة الحوض ومضخَّة تدوير المياه، أفضل جزء هو التعرِّي والجلوس عليها.
كما يقول الفرنسيون: “من الذي لا يحب أن تُمتَص مؤخرته؟” ومع ذلك، ففي لحظةٍ أنت مجرَّد مراهق هائج، وفي اللحظة التالية لن تصبح محاميًّا أبدًا.
الآن أجلسُ في قاع حوض السباحة، السماء تبدو زرقاء مائجة عبر ثمانية أقدامٍ من الماء فوق رأسي، والعالم صامت تمامًا باستثناء ضربات قلبي التي أسمعها في أذنَي. ثوب السباحة المخطَّط بالأصفر معقود حول عُنقي تحسبًا لظهور صديقٍ أو جارٍ أو أيِّ أحدٍ جاء يستفسر عن تغيُّبي عن تدريب كرة القدم. الامتصاص الثابت من مصفاة حوض السباحة يلعقني، فأكبسُ مؤخِّرتي البيضاء الصغيرة حول ذلك الإحساس.
الآن هناك ما يكفيني من الهواء وقضيبي في يدي، والداي في عملهما وأختي في تدريب الباليه، ولن يعود أيهم قبل ساعات.
تقودني يدي إلى شفا الذُّروة، وعندها أتوقَّف. أسبحُ إلى أعلى لألتقط نفسًا كبيرًا آخَر، ثم أغوصُ لأستقرَّ في القاع ثانيةً.
أفعلُ هذا مرَّةً تلو الأخرى.
لا بُدَّ أن هذا هو سبب رغبة الفتيات في الجلوس على وجهك. هذا الامتصاص يشبه عمليَّة تبرُّز لا تنتهي. إنني منتصب، والمضخَّة تلتهم مؤخِّرتي، ولست في حاجةٍ إلى هواء. نبضات قلبي في أذنَي، وأبقى تحت الماء إلى أن تبدأ النجوم في الاحتشاد أمام عينَي. ساقاي مفرودتان تمامًا، وباطنا ركبتَي يُوازيان القاع الإسمنتي مباشرةً. أصابع قدمَي يستحيل لونها إلى الأزرق، ويتجعَّد جلدها كجلد أصابع يدَي من بقائي الطويل تحت الماء.
ثم أتركُ الكُتَل البيضاء الكبيرة، اللآلئ، تتدفَّق. عندها فقط أحتاجُ إلى الهواء، لكن عندما أحاولُ رَكْل القاع لأدفع نفسي إلى أعلى أجدني لا أستطيع، لا أستطيعُ أن أثني ساقَي تحتي. إن مؤخِّرتي عالقة.
سيقول لك مسعفو الطوارئ إن نحو مئة وخمسين شخصًا يعلقون هكذا كلَّ عام، تجتذبهم مضخَّة التدوير وتعلق بالشَّعر الطويل أو المؤخِّرة، وعندها ستغرق. كل عامٍ يفعل الآلاف هذا، ومعظمهم في فلوريدا.
فقط لا تجد الناس يتكلَّمون عن هذا. حتى الفرنسيون لا يتكلَّمون عن كلِّ شيء. أستطيعُ أن أرفع ركبة واحدة وأثني ساقي تحتي، أقفُ نصف وقفةٍ لأشعر بالجذب الشديد في مؤخِّرتي. أثني ساقي الأخرى تحتي وأركلُ القاع، أركلُ بحُرِّيَّة ولستُ ألمسُ القاع الإسمنتي، لكني لا أتحرَّكُ صوب الهواء كذلك.
ما زلتُ أركلُ في الماء وأضربُ بذراعَي. لعلي الآن في منتصف الطريق إلى السطح، لكني لا أرتفع. ضربات قلبي في أذنيَّ تعلو وتتزايد.
شرارات الضوء تعبر أمام عينَي وتتشابك. أستديرُ وألقي نظرة… لكن ما أراه غير معقول. هذا الحبل السميك، ثعبان ما لونه أبيض مزرق مليء بالأوردة خرج من بالوعة الحوض ومتمسِّك بمؤخِّرتي. بعض تلك الأوردة يتسرَّب منه الدم الأحمر الذي يبدو أسود تحت الماء ويبتعد عن جلد الثعبان الشاحب. يبتعد الدم ويختفي في الماء، وداخل جلد الثعبان الأبيض المزرق الشاحب ترى كُتَلًا من بقايا وجبةٍ نصف مهضومة.
هذه هي الطريقة الوحيدة التي يُمكنني أن أعقل بها هذا. هو وحش بحري بشع، أفعى بحريَّة لم ترَ ضوء النهار من قبل قَطُّ ظلَّت كامنة في قاع البالوعة المُظلِم وتنتظر أن تلتهمني.
هكذا أركله، أركل الحبل المطَّاطي الزَّلِق ذا الأوردة، لكن المزيد منه يخرج من البالوعة. طوله يكاد يبلغ طول ساقي الآن، لكنه ما زال متمسِّكًا بفتحة الشرج. بركلةٍ أخرى أقتربُ بوصة أخرى من الهواء. ما زال الثعبان متشبِّثًا بمؤخِّرتي، وأنا على وشك الهروب.
في داخل الثعبان يُمكنك أن ترى ذُرَةً وفولًا سودانيًّا، يُمكنك أن ترى كرة برتقاليَّة طويلة لامعة تُشبِه حبوب الڤيتامينات التي يجعلني أبي آخذها كي أكتسب المزيد من الوزن لأحصل على منحةٍ دراسيَّةٍ رياضيَّة. حبوب مليئة بالحديد وأحماض أوميجا ٣.
رؤية حبة الڤيتامينات هذه هي ما أنقذ حياتي.
إنه ليس ثعبانًا. إنها أمعائي الغليظة. قَولوني كله خارج جسدي.
هذا ما يُطلِق عليه الأطباء اسم التدلِّي. إنها أحشائي وقد امتصَّتها البالوعة.
سيقول لك مسعفو الطوارئ إن مضخَّة حوض السباحة تسحب نحو ثمانين جالونًا من الماء في الدقيقة، أي ما يعادل أربعمئة رطل من الضغط. المشكلة الكبيرة أن كلَّ شيءٍ في داخلنا مرتبطٌ ببعضه البعض: مؤخِّرتك ليست إلا الطرف الأقصى لفمك. إذا تركتها فسوف تستمرُّ المضخَّة في سَحْبِ أحشائي من الداخل إلى أن تبلغ لساني.
ما يُمكنني أن أقوله لك الآن إن أحشاءك لا تشعر بالكثير من الألم، ليس كالألم الذي يشعر به جلدك. الأشياء التي تهضمها يُطلِق عليها الأطباء اسم المادَّة البرازيَّة. في الأعلى هناك كُتل سميكة من الذُّرَة والفول السوداني والبازلاء الخضراء.
هذا إذن ما يحيط بي من دمٍ وذُرَةٍ وبرازٍ ومَنِيٍّ وفولٍ سوداني. حتى وأحشائي تنحلُّ خارج مؤخِّرتي وأحاولُ التمسُّك بما تبقَّى منها، فالخاطر الأول في ذهني هو أن أرتدي ثوب السباحة.
حاشا لله أن يرى أهلي قضيبي!
بيدٍ أقبضُ على أحشائي وباليد الأخرى أجذب ثوب السباحة المخطَّط بالأصفر من حول عُنقي، لكن ارتداءه ما زال مستحيلًا.
هل تريد أن تعرف ملمس أحشائك؟ اذهب واشترِ عُلبةً من الواقي الذَّكري المصنوع من جلد الحملان. أخرِج واحدًا واحشه بزبدة الفول السوداني، ثم ادهنه بالڤازلين وامسكه تحت الماء… ثم حاول أن تُمَزِّقه، حاول أن تقطعه نصفين. ستجده صُلبًا مطَّاطيًّا بشدَّة، ستجده لزجًا لا تستطيع القبض عليه.
واقٍ ذَكري من جلد الحملان، تمامًا كالأحشاء.
يُمكنك أن ترى الموقف الذي أنا فيه إذن.
تَترُك أحشاءك لثانيةٍ واحدةٍ وستَخرُج منك كلها…
تحاول السباحة نحو السطح لتلتقط أنفاسك وستخرج كلها منك…
لا تحاول السباحة وستغرق…
إنه خيار بين الموت الآن والموت بعد دقيقةٍ من الآن.
ما سيَعثُر عليه والداي بعد عودتهما من العمل هو جنين كبير عارٍ متكوِّم على نفسه، طافٍ في المياه المتَّسخة في حوض السباحة، مُقَّيد إلى القاع بحبلٍ سميك من الأوردة والأحشاء الملتوية. هذا عكس ما يفعله من يشنق نفسه حتى الموت وهو يستمني. هذا هو الطفل الذي جاءا به إلى المنزل من المستشفى منذ ثلاثة عشر عامًا، الطفل الذي أملا أن يحصل على منحةٍ دراسيَّةٍ رياضيَّة وينال الماچستير في إدارة الأعمال، الذي سيعتني بهما عندما تتقدَّم بهما السِّن.
ها هي كلُّ أحلامهما وأمانيهما. ها هو ذا، طافٍ، عارٍ، ميت وحوله لآلئ من القذف.
إما ذلك وإما أنهما سيجدانني ملفوفًا بمنشفةٍ داميةٍ في منتصف المسافة بين حوض السباحة وهاتف المطبخ، وبقايا أحشائي لا تزال متدلية من ساق ثوب السباحة المخطَّط بالأصفر.
حتى الفرنسيون لن يتكلَّموا عن ذلك.
ذلك الأخ الأكبر جندي البحريَّة علَّمنا عبارة مفيدة أخرى، عبارة روسيَّة. نقول نحن: “أحتاجُ إلى هذا كما أحتاجُ إلى ثُقب في رأسي”، والروس يقولون: “أحتاجُ إلى هذا كما أحتاجُ إلى أسنان في مؤخِّرتي”.
تلك القصص التي تسمعها عن الحيوانات التي تسقط في أفخاخ فتقضم ساقها لتتحرَّر. أي ذئب سيقول لك إن قضمتين لأفضل كثيرًا من الموت.
حتى إذا كنت روسيًّا، فقد تحتاج إلى تلك الأسنان ذات يوم.
ما تفعله الآن أنك تلوي نفسك وتُثبِّت أحد مِرفقيك وراء ركبتك وتجذب تلك الساق إلى وجهك وتعض وتقضم مؤخِّرتك. عندما ينفد منك الهواء ستقضم أيَّ شيءٍ في سبيل أن تأخذ نَفَسًا آخَر.
ليس هذا شيئًا تريد أن تحكيه لفتاةٍ في لقائكما الأول، ليس إذا كنت تنتظر أن تظفر منها بقُبلةٍ في نهاية اللقاء.
أحشائي… إذا قلت لك كيف كان مذاقها فلن تمس الكالاماري مرَّةً أخرى أبدًا.
من الصعب أن أحدِّد أكثر ما أثار اشمئزاز والدَي: كيف أوقعتُ نفسي في تلك الورطة، أم كيف أنقذتُ نفسي منها. في المستشفى قالت لي أمي: “لم تكن تعرف ما تفعله يا صغيري، كنت مصدومًا”، ثم إنها تعلَّمت كيف تطهو البيض المسلوق.
كلُّ هؤلاء الذين يشعرون بالاشمئزاز مني أو الشفقة عليَّ…
أحتاجُ إلى هذا كما أحتاجُ إلى أسنان في مؤخِّرتي.
في الوقت الحالي دائمًا يقول لي الناس إنني أبدو شديد النحول. في حفلات العشاء يغتاظ الناس مني لأني لا آكلُ لحمهم المطبوخ. اللحم المطبوخ يقتلني، واللحم المقدَّد كذلك. أي شيء يبقى في أحشائي أكثر من ساعتين يخرج كما هو طعامًا. الفول أو قِطَع التونة، ما زلت أجدها كما هي في المرحاض.
بعد أن تجري جراحة كبرى لاستئصال الأمعاء لا يُمكنك هضم اللحوم. معظم الناس لديهم أمعاء طولها خمسة أقدام، أما أنا فمحظوظ بأمعائي التي يبلغ طولها ست بوصات. هكذا لم أحصل قَطُّ على منحةٍ دراسيَّة رياضيَّة، ولم أنل الماچستير في إدارة الأعمال. صديقاي، فتى الجزرة وفتى الشمع، كبرا ونضجا، أما أنا فلم يزد وزني رطلًا واحدًا عما كان وأنا في الثالثة عشرة.
المشكلة الأخرى كانت حوض السباحة نفسه. في النهاية قال أبي للعامل إنه كان كلبًا؛ كلب العائلة سقط في الحوض وغرق وسحبته المضخَّة. حتى عندما أفرغ العامل البالوعة وأخرج أنبوبًا طويلًا من الأمعاء به حبة الڤيتامينات البرتقاليَّة، هزَّ أبي رأسه بأسي قائلًا: “ذلك الكلب كان مجنونًا”.
حتى من النافذة العلويَّة يُمكنك أن تسمع أبي يقول: “لم نكن نثق بوجود ذلك الكلب وحده ثانية واحدة”.
ثم توقَّفت الدورة الشَّهريَّة عند أختي.
حتى بعد أن غيَّروا مياه حوض السباحة، بعد أن باعوا المنزل وانتقلنا إلى ولايةٍ أخرى، بعد إجهاض أختي، لا يذكر أهلي ما حدث مرَّة أخرى أبدًا.
أبدًا.
هذه هي جزرة أُسرتنا الخفيَّة.
أما أنت فيُمكنك أن تتنفَّس مِلء رئتيك الآن، فأنا ما زلتُ لا أقدرُ.

هشام البستاني: تلك النقاط التي تشتعلُ وتخبو

$
0
0

Ottoman image of the building of the Hejaz Railway from the Turkish State Archives. Source: aliwaa.com.lb

أنتَ؟
أنتِ؟
هل.. أعرفكَ من قبل؟ كأنني.. شاهدتكَ في مكانٍ ما..
كأنني.. أعرفكِ. أعرفكِ. ربما لا. لا. لا أذكر فعلاً إن كنتُ رأيتكِ قبل اليوم. لكن يُخيّلُ لي أننا تحدّثنا والتقينا.
لكنني هنا في المحطّة منذ الصّباح. لم أرَكَ. كنتُ أنتظر صافرة وصول القطار وأمسكتُ بحقائبي فجاء صوتكَ. لعلّكَ كنتَ قِطاراً في ما مضى. ألن تصيرَ قِطاراً؟ لا بدّ أن يحملني القطار من هنا وأبتعد إلى حيث لا غبار في الأنف ولا ضجيجَ يلفُّ الرأس ويضغطه كسدّادةٍ من الفلّين. احملني يا هذا. ألستَ قِطاراً؟ ألم تطلق صافرةً من توّ؟
حملتُكِ، ألا تذكرين؟ كنتِ طفلةً كَبُرَتْ فجأةً بين يديّ وصغرتُ أنا. Ma petite fille، كنتُ أقول لكِ، وألمسُ وجهكِ بأطراف أصابعي، لكأني لا أريدُ أن ألوّثكِ بما علق من هذا العالم على أصابعي. لكنّك تركتني حُطاماً مُكتمل الخراب. وما زلتُ أتألّم. ما زال لاعب السيرك ذو السكاكين يقف أمامي ويرمي سكاكينه. يقذفها فتخترق لحمي واحدةً بعدَ واحدةٍ لكنّي لا أموت، بل أظلّ أدور على ذلك اللوح حيث ثبّتني بإحكامِ حِبالٍ غليظة. وعندما جاءت زوجتي وأَطلقتْ عليّ النار من بندقيّة الصيد، كنتُ ممتنّاً لها حقّاً. كنتُ ممتنّاً. كانت حنونةً، أمّا أنت، فلئيمة. لماذا كنتِ لئيمةً؟ لماذا؟
الآن أتذكّر. خلف الخزّان على سطح العمارة. الآن أتذكر. خلعتَ بنطالكَ وملابسكَ الدّاخليّة وأريتني إيّاه. كانَ دوري حينَ شهقتَ صارخاً: ليس لديكِ شيء! ظللتُ بعدها أُفكر مع نفسي: ليسَ لديّ شيء. أملسُ بالكامل، قلتَ، وتحسّستَهُ بأصابعك. أملسُ، وظللتُ أُفكّر مع نفسي. أَنَسِيَ أحدٌ تثبيت قطعةٍ ما في جسدي؟ أسقطتْ قطعةٌ في غفلةٍ ما منّي؟ وبحثتُ عنها البيتَ كلّه، في خزانات الثياب، في الثلاجة، وتحت السرير. وتحت السرير كنتُ حين قرّرتُ التلصّص على أبي، وإخوتي. لا شيء ناقصاً لديهم. أما أمي فرأيتُ، وهي تتنشّفُ من ماء الاستحمام، أن لديها شيئاً مصنوعاً من الشّعر. أنا الوحيدة التي لا تمتلك شيئاً، وتألّمت.
أووووه… يا للذاكرة اللعينة تروحُ وتجيءُ كبثٍّ تلفزيونيٍّ رديء؛ كمسلسلٍ تركيٍّ حلقاتُهُ متشابهةٌ إلى الدرجة التي تقولُ فيها عن الحلقةِ الجديدة: لقد شاهدتها من قبل! هاه؟ لقد شاهدتُها من قبل. هكذا حياتي سلسلةٌ لا نهائيّةٌ من الدوائر والحلقات. أحياناً تأتي على شكل مُتتالية، وأحياناً تتوضّعُ بعضها داخل بعضٍ كأنها تُحاول أن تصير نقطة، أن تتكثّف في نُقطة، أو تتحرّرَ من النُّقطة، لكن دون فائدة، فداخل كلّ نقطةٍ هناك متّسع لنقطةٍ أُخرى، وحول كل نقطة هناكَ مُتّسعٌ لما لانهاية من الدوائر. يا للذاكرة المتعبة. هرم رأسي وانضغطت عُصارته لكنّي أَلمحكِ. كنا معاً في الجامعة، صح، في الجامعة. كنتِ تلعبين مع فريق كرة السلة، تركضين وتنطّطين الكرة لكن عينيَّ معلّقتان بكُرَتين أُخرَيين تتنطَّطان. وترافقني تلك الكرات النطّاطة إلى أحلامي اللزجةِ الدّبقة.. يا للأوصاف المستهلكة! لكنّها هي هكذا، حقيقيّةٌ، وتأكُلني فأذهبُ بعدها إلى المحاضرة بعينين حمراوين وانقباضٍ في القلب. كنتُ أخلصَ مشجّعيكِ لكنّك لم تتحدثي معي ولو مرّةً واحدة. لم تنظري إليّ ولو بالخطأ. وحفظتكِ عن ظهر قلب. كل انبعاجات عضلاتكِ. كل اهتزازات مناطقكِ الرّخوة. كلّها كانت مُلكي في ليالي أرقي الطويلة. مرّةً انتظرتكِ عند باب الملعب بعد المباراة، تظاهرتُ بالتّكبيسِ على هاتفي الصامت والردّ على رسائل لم تصلني. حين ظهرتِ مع رفيقاتكِ بشعوركنّ المبللة، تَبلّل وجهي بالعرق، وركضت. ركضتُ هارباً من خجلي، لكنّه ظلّ يُلاحقني إبنُ الكلب. يُلاحقني ثم يُمسكني ويُحكمُ قبضته الخانقة على عُنقي. إبنُ الكلب.
بلى، بلى! أذكركَ جيّداً. أم إنني لا أتذكر؟ الصورة ذات غبشٍ كثير. زجاجٌ عليه بُخارٌ مُتكثّف، وأنا أَمسَحُهُ بيدي فأراكَ جالساً على السّور بجانب الدّكان المقابل. كانت حركةُ يدي تلك محاولةً للسّلام عليك، للتلويح لك، ففهمت. وعندما نزلتُ لحقتَ بي وتجاوزتَني ففهمت. انعطفتَ فلحقتُ بك، وانعطفتَ ثانيةً وثالثةً ورابعةً فلحقتُ بك، صرنا في حارةٍ لا يعرفنا فيها أحد. دخلتَ بنايةً فتبعتُكَ، وتحت درجها ألقيتُ نفسي في حضنكَ والتقطتُ شفتيكَ بفمي قبل أن أعرف اسمكَ. عطشى كنتُ لذلك الخدر اللذيذ الممنوع. ممنوع. ممنوع. ممنوع الاقتراب من الشبّاك. ممنوع الحديث مع أولاد الجيران. ممنوع اللعب في الشارع. ممنوع الخروج دون تغطية شَعري. ممنوع السلام باليد إلا على أبي وإخوتي والنساء. ممنوع الجلوس بفخذين مفتوحين! ممنوع الجلوس بفخذين مفتوحين. شرفي بين هذين الفخذين، قالوا، وحين أجلس، عليّ أن أضمّ فخذيّ بقوّةٍ حتى لا يطير. ممنوع، ممنوع، وأسفل الدّرج في تلك العمارة التي صارت لنا فالتهمتكَ والتهمتني، حكّني شرفي، حكّني إلى أن طارَ وطرتُ معه. طرتُ معه فلم أسمع صوت ذاك الذي أمسكَ بنا مُتلبّسين في اللذة. استيقظت على صوتِ صفعةٍ حاميةٍ لأرى آثار أصابع حمراء حارّة مطبوعة على خدّك. ثم سمعتكَ تهمس لي: أُهربي، ففعلت. يا لجبني. يا لهلعي وأنا أسمع صراخ الرّجل إذ قفزتُ من باب العمارة إلى الممرّ المؤدي إلى الشارع: اطلبوا الشرطة.. اطلبوا الشرطة.. وبقيت أنتظركَ خلف الشبّاك ذي البخار المتكثّف، وبقيَتْ يدي –كلّما تذكّرتُ القبلة النهمة أسفل الدّرج- تتسلّل وحدها إلى مكان الحكّة. ثمّة رؤوسٌ تخرجُ لي من الظلام ما إن ألامسه: رأس أبي، رأس أمي، رأس مربية الصف، رأس مديرة المدرسة صاحبة العصا الرّفيعة التي تسلخ، رأس رجل العمارة.. كلّهم يتطلّعون إلي بحنق، لكني أدير وجهي وأستعجل الطيران فأستحضر وجهاً لا أعرفه، شخصاً غريباً لا تحملُ نظراته قسوةً مثلهم، بل فيها شراراتٌ، وبعض بلاهة. كأنني رأيته من قبل. آه، إنه يُشبهكَ. أتكونُ أنت؟ لكني لم أركَ من قبل، ونحن في محطّة قطارٍ حيث لا طيران. لا شيء يطير هنا. لا شيء.
ربما.. آه، يا للذاكرة، يا لهذه النقاط التي تشتعل وتخبو. أذكرُ. أذكرُ أنّني كنتُ قاصّاً. كتبتُ قصّةً عن رجلٍ وامرأةٍ يلتقيانِ في محطّةٍ قطار. يشكُّ في أنّه شاهدها من قبل، وتظنُّ أنها تعرفه، لكن أين؟ أين؟ أتكونينَ أنتِ بطلةَ تلك القصّة، وأنا، مؤلفها، بطلها الآخر؟ أذكر تَجَعْلُكَ وجه الرّقيب حين قرأها. هذه دعارةٌ وليست أدباً، صاح بي، فهربتِ من رأسي. كنتِ تحتجّين دائماً عليَّ لأنني لا أجعلكِ تقولين ما تريدين. أنا بذيئةٌ، قلتِ لي، لا أُواربُ حتى في أسماء الأعضاء الجنسيّة، الأدبُ والفنُّ حريّةٌ يا أخي، فأطلقني على الورق كما أريد. ترجّيتكِ. قلتُ لكِ عن هذا الرّقيب. يجلسُ في المكتب، يجلسُ في الجامع، يجلسُ في المخفر، يجلسُ في الشارع. إبن الكلب. يغطس ورائي حين أحاول الغوص أعمق ويشدّني من شَعري. وحين فعلتُها لمرّةٍ وسمعتُ كلامكِ، هجموا عليَّ جميعاً، وقالوا إنني داعر، وهربتِ أنتِ من رأسي. حاولت البحثَ عنكِ مراراً: قلمي سحابةٌ لا تُمطِر، أوراقي تكرمشت وطقطقت مثل أرضٍ بور، واللوحات التي كنتِ تسبحين فيها جفّت ألوانها وتجلّطت. ليس لي إلا محطّة القطار. لكن.. لكن.. ليس في هذه المدينة محطات قطار.. ليس ثمّة قطارٌ أصلاً.. فكتبتُ واحدةً علّني أجدكِ فيها.. تقليديّةً تماماً مثل تلك التي نشاهدها في الأفلام، تقع في خلاءٍ تام. كنتُ أظنُّ أننا في مدينة، لكن محطّتي في خلاء، هكذا يجب أن تكون. وذهبتُ إليها، وها أنا أجدكِ. عودي. عودي معي. سنجدُ صيغةً ما. ستشتمينَ في رأسي، وسأشتمهم في رأسي. سننشر هناك مئات القصص ثم نجمعها ونحشرها في قنّينةٍ عملاقةٍ نُلقيها في البحر. ستجدينها –لا بدّ- يوماً ما على شاطئ ذلك البلد الذي سيأخذكِ القطار إليه. ستقرئينها وتقهقهين. عودي معي. أرجوكِ.
صحيح، يا للذاكرة. يا لهذه النقاط التي تشتعل وتخبو. أذكرُ. أذكرُ أنّني كنتُ ممثلةً في مسرحيّةٍ عن قصّةٍ تتحدّثُ عن امرأةٍ ورجلٍ يلتقيان في محطّة قطار. تظنُّ أنها تعرفه، ويشكُّ في أنّه شاهدها من قبل، لكن أين؟ أين؟ المشكلةُ أن الممثّل اعتُقلَ قبل البروفة الأولى. كان يُشاركُ في مُظاهراتٍ من ذلك النوع. إسقاط النظام. لا تقل لأحدٍ أرجوك. كان عليّ أن أتحدّث إلى شخصٍ في رأسي بدلاً من الممثل. في البداية حاول المخرج السؤال عنه. لديه علاقاتٌ من ذلك النوع. لا تقل لأحدٍ أرجوك. لكنّه عاد كأنْ ليس لدينا ممثّل مفقود. لم يكن لدينا ممثّل أصلاً، قال، هذه مونودراما، وعليكِ أن تتحدّثي طوال المسرحيّة مع شخصٍ في رأسِكِ. أتكونُ أنت هو ذلك الشخص؟ عُد معي، أرجوك. سأتحدّث إلى المخرج، وسيتحدّث هو إلى أولئك الآخرين الذين يَشُدّون الخيوط ويُرخونها. ستخلقُ من جديد باسمٍ جديد، ويصير لدينا ممثلٌ وممثلةٌ وتكتمل المسرحيّة. عُد معي. أرجوك.
أعودُ معكِ؟ هل.. أعرفكِ من قبل؟ كأنني.. شاهدتكِ في مكانٍ ما..
كأنني أعرفكَ أيضاً. ربما لا. لا. لا أذكر فعلاً إن كنتُ رأيتكَ قبل اليوم. لكن يُخيّلُ لي أننا تحدّثنا والتقينا.

Ma petite fille (يا طفلتي الصغيرة)، والزوجة صاحبة بندقية الصيد، من فيلم “الجلد الناعم” لفرانسوا تروفو (1964).
القصّة من كتاب “مقدّماتٌ لا بدّ منها لفناءٍ مؤجّل”، وتُنشر إلكترونيًّا بالعربيّة للمرّة الأولى. نُشرت الترجمة الإنجليزيّة التي أنجزتها ثريّا الريّس لهذه القصة في مجلة “ذي كينيون ريفيو – The Kenyon Review” تحت عنوان: Flash. Fade.، ويمكن الوصول إليها بالضغط هنا.

في مأمن من الريح والتاريخ: شِعر روبرتو بولانيو ترجمة أحمد يماني

$
0
0

Gueorgui Pinkhassov, Tijuana, July 2012. Source: magnumphotos.com

بين الذباب
أيها الشعراء الطرواديون
لم يعد هناك شيء مما كان يمكن أن يكون لكم
موجودا
لا معابد ولا حدائق
ولا شعر
أنتم أحرار
أيها الشعراء الطرواديون الرائعون.

خلال ألف سنة لن يبقى شيء
خلال ألف سنة لن يبقى شيء
مما كُتب في هذا القرن.
سوف يقرأون جملا منفردة، أثر
نساء ضائعات،
شذرات أطفال عاجزين عن الحركة،
عيناك البطيئتان والخضراون
ببساطة لن تكونا موجودتين.
سيكون شيئا أشبه بالأنطولوجيا اليونانية،
وأكثر بُعدا منها حتى،
كشاطئ في الشتاء
من أجل دهشة أخرى ولا مبالاة أخرى.


المتوحش الأخير
١
خرجتُ من الوظيفة الأخيرة إلى الشوارع الفارغة. مر بجانبي
الهيكل العظمي، مرتجفا، معلقا في صارية شاحنة القمامة.
قبعات صفراء كبيرة كانت تحجب وجوه عاملي النظافة، رغم ذلك اعتقدت أنني تعرفت عليه:
صديق قديم. ها نحن هنا!، قلت لنفسي حوالي مائتي مرة،
حتى اختفت عربة القمامة في إحدى النواصي.
٢
لم يكن ثمة مكان أذهب إليه.
لوقت طويل كنت أتجول حول السينما
باحثا عن كافيتريا، عن بار مفتوح،
لكن الغريب أن المباني بدت فارغة،
كما لو أن ساكنيها لم يعودوا يعيشون هناك.
لم يكن لدي ما أفعله سوى أن أدور وأتذكر
ولكن حتى ذاكرتي بدأت تخونني.
٣
رأيت نفسي كـ “المتوحش الأخير” راكبا
دراجة نارية بيضاء، قاطعا شوارع باخا كاليفورنيا. على يساري البحر،
على يميني البحر
وفي الوسط علبة مليئة بالصور
كانت تتلاشى تدريجيا. هل ستبقى العلبة فارغة في النهاية؟
هل ستذهب الدراجة مع الغيوم؟
هل ستذوب باخا كاليفورنيا و“المتوحش الأخير”
في الكون، في العدم؟
٤
ظننت أنني تعرفت عليه: تحت القبعة الصفراء لعامل النظافة
صديق من أيام الشباب. لا يقر له قرار أبدا. أبدا يبقى لوقت زائد في مقام واحد.
عن عينيه السوداوين كان يقول الشعراء: كطائرتين ورقيتين معلقتين فوق المدينة.
بلا شك الأكثر شجاعة. وعيناه
كطائرتين ورقيتين سوداوين في الليل الأسود. معلقا في صارية
شاحنة القمامة كان الهيكل العظمي يرقص على أنغام شبابنا.
الهيكل العظمي يرقص مع الطائرات الورقية ومع الظلال.
٥
كانت الشوارع فارغة. كنت بردانا وفي رأسي
تدور أحداث “المتوحش الأخير”. فيلم أكشن، بخدعة:
كانت الأشياء تحدث ظاهريا. في الخلفية وادٍ هادئ،
متحجر، في مأمن من الريح والتاريخ. الدراجات النارية، نار الرشاشات،
التخريبات المتعمدة، الثلاثمائة إرهابي ميت،
في الواقع كانوا مصنوعين من جوهر أخف من الأحلام.
بريق يرى ولا يرى، عين ترى ولا ترى. حتى عادت الشاشة بيضاء
وخرجتُ إلى الشارع.
٦
ما يحيط السينما، المباني، الأشجار، صناديق البريد،
فتحات المجاري، كل شيء يبدو أكبر بعد مشاهدة الفيلم.
كانت بطانة السقف كشوارع معلقة في الهواء.
أكنت قد خرجت من فيلم الثبات ودخلت إلى مدينة عمالقة؟
لوهلة فكرت أن الأصوات والمنظورات تصيب بالجنون. جنون طبيعي.
دون حوافٍ. حتى ملابسي كانت هدفا لعملية تحول! مرتعشا، وضعت يدي في جيب
جاكتتي الحربية السوداء وأخذت أمشي.

 

٧
تابعت أثر شاحنة القمامة دون أن أعرف يقينا
ما الذي كان بانتظاري. كانت الشوارع كلها تصب في الاستاد الأوليمبي هائل الحجم.
استاد أوليمبي مرسوم في فراغ الكون.
تذكرت ليالي دون نجوم، عيني مكسيكية، مراهقا بجذع عارٍ ومطواة.
أنا في الموضع الذي يُرى فقط بطرف الأصابع، فكرتُ. هنا لا يوجد أحد.

 

٨
كنت قد ذهبت لأرى “المتوحش الأخير” وعند خروجي من السينما
لم أعرف أين أذهب. بشكل ما كنت أنا
شخصية الفيلم ودراجتي النارية السوداء
كانت تقودني مباشرة إلى الدمار. لا مزيد من الأقمار اللامعة
على الفاترينات، لا مزيد من شاحنات القمامة، لا مزيد
من المفقودين. كنت قد رأيت الموت يجامع الحلم وكان جافا ساعتها.

ليسا
عندما قالت لي ليسا إنها قد مارست الحب مع آخر،
في كبينة الهاتف الحية في مخزن تيبياك ذلك، ظننت
أن العالم قد انتهى بالنسبة لي. شخص طويل ونحيف
وله شعر طويل وقضيب طويل لم ينتظر أكثر من موعد واحد
كي يلجها حتى العمق.
ليس شيئا جادا، قالت هي، لكنها أفضل
طريقة كي أُخرجك من حياتي.
كان لبارمينيدس جارثيّا سالدانيا شعر طويل ومن
الممكن أن يكون هو عشيق ليسا، لكن بعد ذلك بسنوات عرفت
أنه قد مات في عيادة نفسية
أو أنه كان قد انتحر. ليسا لم تعد ترغب في النوم أكثر مع فاشلين.
أحيانا أحلم بها وأراها سعيدة وباردة في مكسيك مصمم عن طريق لافكرافت.
سمعنا موسيقى Canned Heat (أحد الفرق المفضلة لدى بارمينيدس جارثيّا سالدانيا)
وبعدها مارسنا الحب ثلاث مرات. المرة الأولى قذف داخلي،
الثانية قذف في فمي، الثالثة بالكاد خيطا من الماء، خيط صنارة قصير، بين نهديّ.
وكل شيء تم في ساعتين، قالت ليسا. أسوأ ساعتين في حياتي،
قلت لها من الجانب الآخر على التليفون.

 

تفاني روبرتو بولانيو
في نهاية عام ١٩٩٢ كان مريضا للغاية
وكان قد انفصل عن زوجته.
كانت تلك هي الحقيقة العاهرة:
كان وحيدا ومنحورا
واعتاد الظن أنه لم يتبق له سوى القليل من الوقت،
لكن الأحلام، بعيدةً عن الأمراض،
تحضر كل ليلة
بوفاء أثار دهشته
الأحلام التي نقلته إلى ذلك البلد السحري
كان هو ولا أحد غيره يسميها مدينة مكسيكو
وليسا وصوت ماريو سانتياجو
يقرأ قصيدة
وأشياء أخرى عديدة طيبة وجديرة
بالثناء الأكثر توهجا.
مريضا ووحيدا، كان يحلم
ويواجه الأيام التي تمضي قاسية
نحو نهاية العام القادم.
ومن ذلك استخرج القليل من الضوء والشجاعة.
المكسيك، خطوات الليل الفسفورية،
الموسيقى التي كانت ترن في الزوايا
حيث من قديم الزمان تتجمد العاهرات
(في قلب مستعمرة جيريرو)
وكن يقدمن له ما يحتاجه من طعام
لقبض الأسنان
وعدم البكاء من الخوف.

 

حرفة نادرة مجانية
حرفة نادرة مجانية   تأخذ في فقد الشَّعر
والأسنان      والطرق القديمة لتكون مهذبا
رضى غريب    (لا يرغب الشاعر أن يكون أكثر
من الآخرين)    لا ثروة ولا شهرة ولا حتى
شعرا    ربما يكون هذا هو السبيل الوحيد
لعدم الخوف    أن تسكن الخوف
كمن يعيش داخل البطء
أشباح تتلبسنا جميعا     ببساطة
في انتظار شخص أو شيء فوق الخرائب.
Viewing all 44 articles
Browse latest View live


Latest Images