Quantcast
Channel: جنس –тнє ѕυℓтαη'ѕ ѕєαℓ
Viewing all 44 articles
Browse latest View live

أحمد الفخراني وزمن البورن الجميل

$
0
0

ملك العالم يقابل كاي باركر: فيلم بورنو طويل، قصة أحمد الفخراني

wpid-jk_snapseed-2013-04-24-06-03.jpg

كاي باركر: زمن البورن الجميل

.

من يملك القبو يملك العالم.

قالت العرافة العبارة بجلال، وهى تئن فوق قضيب سمير الحكيم.

أما سمير الحكيم، فلم يحتاج إلى الكثير من التفكير ليقول: والقبو ملكى… إذن أنا أملك العالم.

رفصها، ثم رفع السوستة وغادر قبل أن يمنح العرافة الفرصة لأن تضيف عبارة أخرى، فعبارات العرافين والحكماء المكثفة والشاعرية كما يرى سمير ليست سوى كلمات ملتبسة لا تغني ولا تسمن من جوع، هدفها أن تقال بجلال دون أن تتورط فى الخير أو الشر.

ركب بساطه السحرى، عربة بيجو من موقف عبود، ليعود إلى قبوه فى طوخ، حتى يفكر كيف يستغل تركته وثراءه الفاحش: امتلاك العالم.

فى مقعده بجوار شخص له رائحة نتنة، واتته خاطرة جديرة بأن تتحول لخطة: أن يعيد تشكيل العالم.

عندما وصل، طالبه السائق بالأجرة. فكر ألا يدفع، كيف لمالك العالم أن يدفع، لكنه آثر أن يؤجل إعلانه الخبر قبل أن يتمكن من السيطرة الفعلية.

أجر فثبة إلى حيث يرقد القبو فى سلام. مركز العالم المتشاحن، الذى لم يلتفت يوماً ولو على سبيل العطف لشخص أفنى ٤٠ عاماً من عمره فى البحث عن كنز لا يفنى، كنز ليس اسمه القناعة، لا أحد يمتلك العالم بالقناعة، القناعة ككلمات العرافين، هدفها أن لا تتورط فى الخير أو الشر وأن تترك لآخرين امتلاكك شخصياً.

سأل سائق الفثبة: ماذا تفعل لو منحك الله توكيلا بامتلاك العالم؟

ضحك السائق قبل أن يجيب: هشترى فثبة تانية… أسطول فثب. وأقعد على القهوة ملك.

أما سمير، فلم يجد إجابة مقنعة ترن فى رأسه. هو أيضا لا يعرف ما ينبغى فعله بامتلاك العالم. يملك افكاراً، لكنها لا تليق بجلال السؤال، كلها ترهات: سيكبر عضوه مثلاً، سينام مع هيفاء وهبى دون أن يخشى سرعة القذف ودون أن يضطر لاستعمال تايجر كينج. لكنه يملك فى النهاية عنواناً عريضاً لمشروع طموح (إعادة تشكيل العالم)، لا يهم الآن كيف ستسير، الإلهام سيأتيه لاحقاً.

على الطريق، خرج ثلاثة بلطجية. أوقفوا الفثبة، طلبوا من سمير والسائق أن يسلّما كل شىء: النقود، الموبايلات، الفثبة.

قبل أن يستجيب سمير، فكر فى اختبار قوته كملك للعالم. غمّض عينيه وبدأ فى إقناع الأشجار على جانبي الطريق أن تقتلع أعين البلطجية، وما إن بدأت الأشجار فى التحرك حتى فكر فى التراجع. لا يجب أن يحرق قوته الآن.

فقام بالتفاوض:

أملك عرضاً أكبر، أملك كنزاً.

لو تركتونا، سأمنحكم إياه.

لم يكن سمير ساذجاً، كان يخطط لشيء آخر، أو هكذا يبدو، حتى أنه أخفاه عني كراوٍ عليه أن يعلم كل ما بطن وخفى ليستطيع أن يقص عليكم شيئاً محكماً.

wpid-img_5679-2013-04-24-06-03.jpg

سخروا منه، لكنه واصل:

“أملك الكثير من الآثار… فى قبو، كل ما أحتاجه هو قليل من الحَفْر. سنتقاسمها نحن الخمسة ونصير أغنياء”.

أظهر لهم خريطة رسمتها له العرافة. من أجلها باع ميراثه القليل ليشترى البيت الذى يحمل القبو، الذى يخبىء الكنز: امتلاك العالم.

سمير لم يكن مولعا بالآثار قط. هو مجرد جَمّيع فى دار نشر. يعمل فى الصباح، يجلس على المقهى مساء، ويضاجع زوجته أو يشاهد مسرحيات محمد نجم على موجة كوميدى فى الليل. ولم يكن يشعر بأن شيئاً ناقص. بل على العكس، كان يشعر بامتلاكه للعالم.

لكنه صحا ذات يوم صارخاً: لا أرغب فى الموت.

كان الكابوس الذى راوده بسيطاً، خلاصته أن لا شىء حقيقي فى هذا العالم، وأن ما يحدث حوله محض تمثيلية. لا معنى لشىء، لذا عندما أعد لنفسه فنجان القهوة، ومع أول نفس لسيجارته الأولى، عرف أن عليه أن يعدّل صرخته من “لا أرغب فى الموت” إلى “أنا ميت بالفعل”.

لذا بحث عن سرابه بيديه، عن شيء ما يمنعه من الانتحار. قضى ليالي طويلة فى الحفر، جاب بلاداً لم تخطر على باله، أصبح زبونا مهما لدى كل السحرة والعرافين فى المدينة.

فى كل مرة كانوا يقدمون إليه خارطة لا تصل به إلى شىء، وحكمة ملغزة… كلما وصل إلى مغزاها، كلما اكتشف أنهم مهرجون.

لم يعثر على شيء، ولم يرغب أبداً فى العثور على شيء. كل ما أراده أن يثابر على الوهم، كى يتمكن من الاستمرار فى الحياة دون أن يقطّع شريانه.

حتى وصل إلى عرافة، قدمت إليه كالآخرين خريطة وحكمة، لكنها أضافت إليها شيئاً، لم يجده لدى من سبقوها: الجنون.

كان يحتاج إلى رفقة لعبور الطريق وها هي: ثلاثة بلطجية وسائق.

لم يقتنع البلطجية بل على العكس، طورت قصته رغبتهم من مجرد سرقته لرغبة فى إذلاله.

أجبروه على خلع ملابسه ، سرقوها وعلموا على مؤخرته بمطواة، بينما تركوا السائق محتفظا بملابسه مكتفيين بالفثبة ودبلة.

انهار باكياً، بين يدى السائق. قال: كيف يهينون ملك العالم؟

للحظات، تبدى له السائق كدليل، كملاك.

بحث عن الأجنحة، لم يجد.ل كن عمود نور يصل بين السماء وبقعة الأرض التى يقف عليها السائق تكشفت.

قال السائق: لو كنت استخدمت قوتك، لاحترقت وسُلب مجدك المنتظر. تلك أول خطوة فى امتلاك العالم: الحكمة.

ثم صعد: طاقة النور ابتلعته.

الحكيم العارى تساءل بغضب: أى حكمة تترك صاحبها عارياً، بجرح فى مؤخرته.

انطفأ الطريق، حتى من النجوم. لا مارة، لا ظلال، لا عواميد إنارة، لا فثب تمر أو عربات، إلا ماكينة حلويات أضاءت من بعيدكسراب.

هاجس مر بعقل سمير الحكيم، هل انطفىء الطريق ليستر عورته؟ هل انقطع العالم إلا ماكينة الحلويات كى لا يتيه،. كن تلك الماكينة، تحديداً الروح التى تسكنها، هى عدوته.

فى العمل، هناك ماكينة للحلويات تشبهها لم يُجد استعمالها أبداً. كانت تمثل له عنجهية طبقة لم يفهمها، يتحدثون الإنجليزية بطلاقة ويتحكمون بالعالم كقطعة صلصال: يترقون أسرع، بأقل شقاء ممكن، وبأقل موهبة متاحة، متحفزين لأن يقتلوا ببرود كل من يملك كرامة ويمثل تهديداً لمكانتهم، ولا يجيد التعامل مع ماكينة الحلويات. لكنهم فى النهاية كانوا أكثر خفة، أجسادهم تحديداً.

سمير الصامت دوماً المستكين بما يغري بأن تخترقه ولو بعضوك فى مؤخرته، كان يملك قول لا. فقط يختزنها فى صمته لينفجر بها بدوي منطقي، دوي يخرس ماكينة الحلويات إلى حين.

لكن ماكينة الحلويات هى الأخرى تصمت إلى حين، تستعد للحصول على كل كويناته دون أن تمنحه ولا قطرة كوكاكولا واحدة تبل الريق، لإحراجه وهو يحاول أن يرفصها بقدميه لإخراج أى شىء.

للماكينة سر فك سمير الحكيم طلاسمه ذات مرة.

تلك الماكينة مسكونة بروح ساحرة حبيسة أحلامها.

أدرك ذلك خلال رحلته. حياته الأخرى التى أهداها إياه عراف مجنون.

كان عليه وفقا لخريطة الآثار أن يسلم شحنة من الكراميل وأن يقايضها بأفلام لكاي باركر، ممثلة البورنو الأشهر، ليسلمها إلى العراف المجنون، ليكشف له عن نقطة أخرى فى خريطة امتلاك العالم.

وجد نفسه فوق ظهر سحابة. كانت السحابة تخفى سفينة، لا تظهر إلا اذا سارت فى البحر. لم تكن مهمة، كانت ولوجاً جديداً فى المتاهة، مفتاحاً لامتلاك العالم.

سمير تخلص وقتها من أدائه كجّميع فى دار نشر، وبدأ فى التصرف كقبطان… حتى أنه أوقف السفينة عند إحدى محلات وسط البلد ليشترى بايب، فكل معلوماته عن البحر لم يعرفها إلا من كارتون باباى.

wpid-img_7798-2013-04-24-06-03.jpg


لكن الرحلة لم تكن باليسيرة، وكشفت المواجهة الأولى للسفينة مع حوت مخمور أن التصرف كقبطان لا يعنى فعلاً أنك صرت قبطاناً. احتاج الأمر إلى ما هو أكثر من شراء بايب، وعرف أن الناقص هو إيمانه بأن الأمر محض تمثيلية كما الحياة، لذا أمر أهل حارته أن يبدأوا فى تصويب المدافع على الحوت.

صرخوا: لا توجد مدافع فى السفينة.

الحوت المخمور ضرب السفينة بذيله، أصر: أطلقوا المدافع.

الصرخة أظهرت المدافع بالفعل، خرجت من رحم السفينة. فجأة، بدأ البحارة في الإيمان بقدرة قبطانهم فبدأوا فى إطلاق النيران، لكن المدافع لم تطلق نيراناً، فقط ألعاباً نارية وأطباق جيلى.

شخر البحارة، لكن الحوت المخمور أعجبته الألعاب النارية واهتزاز الجيلى أغرقه فى الضحك.

لما انقلب على قفاه من الضحك قال: ستلتهمك كاي باركر بكسها، كما التهمت كويناتك الضائعة.

ثم بصق على السفينة، قائلاً قبل أن يرحل: أنتم مثيرون للشفقة.

بلع سمير الإهانة مصمماً على إكمال الرحلة، وإن كانت كلمات الحوت المخمور قد أصابته بشك فى مساره الجديد.

فى منتصف الطريق، قابل ملاكاً يحاول إصلاح جناحه بإبرة وخيط.

قرر أن يعطيه قليلاً من الكراميل.

أرسل له أحد البحارة بطبق.

لكن الملاك رده.

فذهب إليه سمير بنفسه، ما إن اقترب بالسفينة من الملاك حتى فوجىء بإعصار يبتلعه. وجد نفسه مقيداً وسط مجموعة من الشياطين والمردة والإنس العالقين بذنوبهم.

ضحكوا أول ما رأوه: لقد وقع فى الخدعة مغفل آخر.

عرف أن الملاك ليس ملاكاً وإنما حارس قلعة كبرى تملكها حورية بحر، تستغل الشياطين والمردة والإنس فى أعمال السخرة، ليس عقاباً على ذنوبهم ولكن على شعورهم بالذنب.

سأل: ولم ادعى أنه ملاك؟

أجابوه: الفضيلة أفضل غطاء للشياطين.

قبل أن يسأل عن خطيئته، تقدم حارس القلعة وجره إلى حيث تقطن صاحبة القلعة.

أول مارآها عرفها: كانت كاي باركر، الساحرة، تماماً بهيئتها فى فيلم البورنو “كيت آند ذا إنديان”، داخل ماكينة الحلويات ذاتها التى تعذبه. لم يرها فى أفلامها الأكثر انتشاراً والأقل سحراً “برايفت تيتشر” وسلسلة أفلام “تابو”.

عارية على العرش وتؤدى طقوس غريبة أشبه بالصلاة، قوية تملك الأثداء المحببة لأم، وعاهرة. للمرة الأولى يراها فى ذيل حورية البحر.

رفعت رأسها نحوه فأصابته رجفة. لقد وقع فى العشق. هى حوريته التى بشرته بها العرافة وهى تأن فوق قضيبه.

لم تكن تلك الكاي باركر سوى الروح الحبيسة داخل ماكينة الحلويات، الهيئة الأكثر اكتمالا لها: أميرة البحار وسيدة العرش المهدد بالفناء.

ركع سمير أمام العرش ركعة عاشق فيما انتصب عضوه بكرامة من يأبى الركوع.

سألته: أى خطيئة اقترفت؟

قال: تبعت سرابى.

قالت: لماذا أعطيت الملاك الكراميل؟

قال: كان جائعاً.

قالت: لكنه لم يكن ملكاً لك. كان عليك أن ترسله غير منقوص لتبعث بأفلامى إلى العرافة… لقد خنت الأمانة.

تكلم عضوه الذى لا يعرف إلا الانتصاب: أى أمانة، أنت مجرد ممثلة بورنو.

قالت بهدوء: الرذيلة أفضل غطاء للملائكة.

ثم أمرت بحبسه فى غرفة وتقييده وتعذيبه بمص قضيبه – صاحب الكرامة – لكسره.

لكنه تحمل أربعين ليلة، حتى كُسرت كرامتها، وفاض كسها بكوينات عمره الضائعة على ماكينة الحلويات.

كسرها فى جنونه، لكن ما أن عاد إلى العمل حتى عاد كل شىء إلى طبيعته.

لم ترفضه فقط ماكينة الحلويات، بل إنها رفضت استقبال كويناته ولو على سبيل السرقة. كانت تلفظها بقوة، كادت أن تطيح بإحدى عينيه ذات مرة.

ثم تحول كل شىء إلى عذاب. الكل يرفضه: رفاقه فى العمل، زر الأسانسير، أكواب القهوة، أزرار الكيبورد الذى يجمع عليه هراء كتاب فشلة.

زوجته تساءلت عن عضوه المنتصب دوما بلا فائدة دون أن يلج شيئاً حقيقياً. يسير فى الشارع بعضو منتصب وحياة مكسورة.

كان قد سلم شحنة الأفلام إلى العرافة فمنحته السر.

لكن فى العمل، صار المجنون الذى يصرخ فى ماكينة حلويات، يجادلها، يستعطفها، يقرأ القرآن لإخراج الروح الشريرة التى تسكن بها، يطوف حولها بالبخور يطلب حماية الله من أكياس الشيبسى والمولتو والكولا الدايت.

wpid-img_7528-2013-04-24-06-03.jpg

عارياً فى الطريق المظلم، وبجرح فى مؤخرته، تقدم نحو ماكينة الحلويات. دارت الفكرة فى رأسه مائة وثمانين درجة ليراها هكذا: أكان للطريق أن ينطفىء، لتفضحه ماكينة الحلويات؟

تجلت مرة أخرى الروح التى تسكن الماكينة فوق عرش من أزبار وأثداء: عرش فى منتصف دائرة.

صرخ فى منتصف الطريق: أنا ملك العالم، أملك القبو، والسر. وأعرف الخمر الجيد من سواه.

الدائرة تكشفت أكثر حول ماكينة الحلويات. كاي باركر تقف فى منتصفها بشموخ، بينما يشتعل الجنس الجماعى بالأجساد على محيط الدائرة التى بدت للحكيم منطقية. ذكر وأنثى يكرران الوضع فى نمطية لا تقلق أحداً، بينما تقف كاي باركر فى المنتصف وفى يدها رق يظبط الايقاع. 69

فى أحد الكتب التافهة التى جمعها، كان أحدهم يثرثر عن أن كل شىء ما هو إلا دائرة: الحياة تتكرر، كل شىء هو كل شىء، كل الصباحات، كل الليالي، كل المضاجعات… الكلام المعسول، خيبات البشر وانتصاراتهم. الحياة والموت.

هو ذاته الكابوس الذى رآه: طريق مظلم تضيئه امرأة العرش وسط دائرة من الأجساد المتعانقة على طريقتها. الكابوس الذى جره إلى رحلة امتلاك العالم، ليكتشف أنه وجهاً لوجه أمام ما هرب منه.

اقترب أكثر، ميز بعض الأجساد. على عكس ما كان يؤمن وصل لقناعة جديدة: العري لا يجعلنا نتشابه، العري يميز الأجساد أكثر، لكن ذلك لا يـتأتى إلا لمن تتملكه بصيرة نافذة، كتلك التى أصابته فجأة.

تلك أجساد العاملين معه فى دار النشر: المتحذلقين، متحدثي الإنجليزية بطلاقة، من يقرأون كتب التنمية البشرية ويحصلون على كورسات فى كل شيء، بدءً من الإدارة الفعالة للذات وحتى الإدارة الفعالة للكون. هؤلاء الذين يحصلون على فرصة فى الحياة، بإجادتهم التعامل مع ماكينة الحلويات.

ذكروه بجسده الضعيف فى حلقات الذكر، يصير خفيفاً طوافاً، قابلاً للخرق دون أن يشعر. هم غلابة مثله إذن، وضعاف. تلك الأجساد التى ترسم دائرة ثقوب وأعضاء غارقة فى الوجد خارج الزمن.

لم يعرف سمير الحكيم خطوته التالية: هل ينضم إلى متصوفة الجسد هؤلاء، أم يسرتن بعضوه المنتصب. سألها: أى يد أنت؟ خير أم شر؟

يد الكاي باركر اختطفته بجوراها على العرش المهدد بالفناء، أجابته: لا يوجد خير أو شر… نحن فقط نلعب.

طرقعت بأصابعها، لتفيق دائرة الأجساد قائلة: هللوا لملك العالم.

استعاد الطريق أضواءه، لتتحول نقطة النور الوحيدة إلى حفل صاخب، والأجساد إلى مهرجين وراقصين يتعرون راغبين فى إغرائه، إناث وذكور… وهو الأمر الذى لم يثر حفيظة الحكيم، على عكس توقعاته عن نفسه: “امتلكهم الآن وللأبد”.

سلمته كاي باركر سبعة مفاتيح عبارة عن سبع كوينات أسمتها مفاتيح اللذة السبعة: “مفاتيح تخترق كل الثقوب”.

ثم انطفأ كل شىء.

وجد سمير نفسه مطروحاً على مؤخرته وجرحها ينزف بلا هوادة، فى يده مفاتيح اللذة السبعة.

وحيداً فى القبو، مركز العالم المتشاحن.

لم تكن هناك آثار، فقط ظلمة، وضوء فى البعيد، دائرة محاطة بعتمة أكبر. سار نحوها وفى يده مفاتيح العالم السبعة.

لم يكن الضوء سوى كس كاي باركر، فتحة الكوينات فى ماكينة الحلويات. ولم تكن دائرة العتمة حول الضوء سوى شعر الكس،م وضة أفلام البورنو فى السبعينات.

لم يكن القبو سوى المسافة بين فخذيها الطويلين طول المسافة التى قطعها طيلة 40 عاماً. سير بلا طائل، عود على بدء.

أنهكته المسافة بينما الضوء،كس كاي باركر الرائع، يبتعد أكثر.

مفاتيح اللذة السبعة التى لم تكن سوى كوينات، جرى أحدها ليبتلعه كس ماكينة الحلويات. تكشف له جدار القبو، فخذها: كان ليناً كقطعة الصلصال، بل هو بالفعل قطعة صلصال.

وبدأ فى تشكيل العالم كما شاء. لم يبن قصرا، لم يضاجع هيفاء وهبي، لم يكبر عضوه.

بل بنى أشكالاً بلا معنى هو وحده كان يدرك مغزاها. عالمه.

كلما نفذ عاد الفخذ إلى هيئته، يرمي بكوين آخر للكس الجائع فيستعيد هيئة الصلصال.

انتهت الكوينات السبعة. لم يجد سوى عضوه. امتد ليصل إلى الضوء. الكس يتأوه ويقذف بكل زجاجات الكوكاكولا والشيبسى والمولتو حتى فرغت قبل أن يقذف الحكيم بمائه. وعندما فعل، سرت الحياة فى الأشكال التى بناها من الصلصال.

أشكال غير مفهومة، تحيا فى الدائرة، تقتل بعضها بانتظام لتنتخب بقاءها.

حاول الحكيم أن يقلل من تشاحنها بمقتطفات يعرفها من جمعه لكتب التنمية البشرية والتحكم الفعال فى الذات، من كلمات الحكماء والعرافين، من تعاويذ السحرة والفقهاء.

لكن الأشكال غير المفهومة لم تفهم: لماذا يتلو عليها ما سرق عمره، ما أزاحه عن استكمال الحياة؟

بين فخذى ماكينة الحلويات، حفروا له قبراً كبيراً، وضعوه فيه. ثم تحولوا إلى منتجات جديدة فى الكس الجائع.

وهم يهيلون التراب عليه فكر الحكيم ماذا لو لم تكن كاي باركر بهذا السوء الذى لقنوه إياه؟ ماذا لو كانوا استنفذوها كجسده؟

عندما أتاه الموت ليستكمل الدائرة، استقبله الحكيم بابتسامة هادئة تليق بملك انتهى لتوه من اللعب، فيما لم يمنحه الموت فرصة أن يضيف إحدى عبارات العرافين والحكماء الملتبسة.

أحمد الفخرانى

21 فبراير 2012



مينا ناجي: مختارات من أسبوع الآلام

$
0
0

عن كتاب “أسبوع الآلام” (قيد النشر): مينا ناجي

.

((وَثَقُوا يَدَيَّ وَرِجْليَّ. أُحْصِي كُلَّ عِظَامي)) – مزمور 22

.

فرحتنا. فرحتنا التى لا تسع شيئاً

ولا تستجيب إلا لنا.

فرحتنا أول الصيف. أول الموسم المغطى بالعشب الذى يكسو جدران الحمام وغرف النوم والطُرقة وجلودنا التى تنبهت أخيراً إلى وضعية أشد خطورة من مسك الليل. حان وقت فرحتنا التى أبكتنا كثيراً فى انتظارها الموقوت.

هلم نتحاجج: فرحتنا أولى بنا من جلدة بنى آدم. هكذا ظهر لنا ما كان صريع الوقت. القيامة المجيدة. الهتاف العَذب. الخوف المؤسي. العنبر الليلي الذى اختفى وراء أضغاث المدينة. رعب المرايات والشبابيك. هلم نتحاجج. فرحتنا أهم من موتنا. أهم من رعب الصيف. أهم من خضروات السوق التى تنمو من قلوبنا. أهم من المأساة التى تشكلت عبر وعينا حين فهمنا ما فى الأرض. المأساة الجميلة. الحقيرة. المغرضة. التافهة. الخبيئة. الوسيعة. هلم نتحاجج إذن: إذا كان رب البيت نائماً فباطلاً بنى البناءون. إذا لم يبن الرب البيت فباطلاً نام النائمون. هلم نتحاجج يا كلبي العزيز. ما كان سوف يكون. ما سقط صريعاً لن يقوم ثانية. ولن تسع الأرض شيئاً سوى فرحتنا. التى لا تسع سوانا.

.

wpid-img_7094-2013-05-8-00-27.jpg

.

تلك التي قبلتني علي خدي

ونحن في ذروة السُكر

لأني سكبت زجاجة البيرة

شعرت أنها تواسيني في محنة ما

خيال مشترك

استدعته بالضرورة – أو من غير ضرورة –

رغاوي البيرة علي سطح الزجاج.

كانت قبلة مفاجئة

علي خدي الساخن

استجلبتها مرة أخرى بسكبي جرعة جديدة.

في المرة الثالثة

نبهتني في نبرة ذنب أنها ستعترف لصديقها

لم أعرف إن كانت تتحدث بجدية

أم تمرر لي رسالة

عليَّ أن أفهمها.

.

في غمرة عربدتي

ارتميت علي الأرض

وأخذت أصيح بصوت عال وأغني

شعرت بذراعين ترفعانني وتجلسانني علي الكرسي

في هدوء

(تذكرت أمي وهي ترفعني أثناء اللعب

وأنا طفل صغير)

ولوهلة

شعرت بالدفء في قلبي.

.

وجدتها هي. والطفل وحيدٌ وسكران.
.

wpid-img_7090-2013-05-8-00-27.jpg

.

كنا فى آخر أيام القتال

وكانت أبواب الجحيم مفتوحة

بردٌ وضبابٌ يملأ الرئتين

والموت يبتسم ابتسامته الاخيرة

واقفين نحصي قتلانا.

.

wpid-img_5774-2013-05-8-00-27.jpg

.

لماذا ارتجت الشعوب واهتزت الأمم

ولماذا كان الرب سليطا علينا

نحن رجال البر… رأينا وجه البحر الغاضب

يزحف نحونا… وسلك الشمس مقطوع منذ شهور.

.

wpid-2013-02-2720-24-26-2013-05-8-00-27.jpg
.

أقول لكَ:

أسماكٌ هي الفُرص الضائعة

التي نلتقطها بصنَّارة الوقت

نمسكها بيدينا، ترتعشُ

ننظر إلي عينيها نصف الميتة

نكاد أن نشرع في البكاء

لانعكاس تعاسة وجوهنا عليها

ثم نرميها في المياه

ونبدأ فعلياً في البكاء.

.

أسماكٌ هي أفكارنا البائسة

تلمع بقشريات تزيدها ظلافة

تكاد أن تسد شرايين أدمغتنا

نرجوها مرةً لو تُخرج خاتماً

أو ترحمنا من طعم المياه

المالحة في حلوقنا

أسماكٌ هي أرواحنا الغارقة.

.

wpid-img_6484-2013-05-8-00-27.jpg

.

هذا الرقم الذي يدل على العشق ولا يدل على الوحدانية. فى ليالينا الحارة بانتظار عيد القيامة الشرقي – كأن الله قام مرة فى الغرب ومرة فى الشرق – تناقشنا نحن الأثنان حول ما إذا كان الحب يستلزم الموت. فى خضم حوارنا التخيلي عبر شبكات الاتصال ران فى نفسي هذا السؤال الذى يأتي كل عام: لماذا لابد من أسبوع آلام كامل قبل كل قيامة؟ لماذا الألم كشرط للفرح؟ لماذا الموت فى قلب الحب؟ إن لم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتمت فسوف تظل وحدها. الإثنين هو الزحف المقدس نحو المأساة. ليس غريباً أن يكون ثنائياً. نذهب جميعاً إلى المأساة أزواجاً حتى نصلها فنصبح وحدنا تماماً. وحدنا فى قلب المأساة. المركز.

.

wpid-img_7379-2013-05-8-00-27.jpg

.

رجلٌ مغمى عليه في الشارع. العجائز أصدقاؤه يتبادلون النظرات القلقة وجس النبض ومسك الذراع. أنا وصديقي للمرة العاشرة بعد المائة نحاول إمساك النسيان في صراع الدخان، جالسين، بيننا وبين الرجل زجاج المقهي الشفاف، يحاول أصدقاؤه دعك صدره وواحدٌ منهم تبدو عليه أمارات الفزع. أحاول التماسك والكتابة. فشلوا في إفاقته ومع وصول طبيب كان جالساً بالصدفة حملوه ومضوا. صديقي غنى لي في نشوة الحشيش أغنية عن رفض دخول البريء من بوابات العالم. دعنا نصل حتي لا يحترق الخزين.

.

wpid-img_0439-2013-05-8-00-27.jpg

.

يوماً ما سوف يحبنا الله، سترين

سيحملنا على سحابه مع أتقيائه

سيتبخر سوء حظنا وتعاستنا

سنضحك ونجري ونقضم كل تفاحة

تقع تحت أيدينا من أى شجر كان.

سنلهو بلا قلوب مدخنة…

تبدو للعين مثل فجوات ممتلئة بالحمص والياسمين.

سنركب مراكب ورقية ونجدف بكفينا على الرمال.

يوماً ما سيموت العالم فَزعاً من ضحكاتنا

ستموت المأساة مخنوقة

ويشجب السواد قلة التعاسة وطغيان البهجة

ستنشر الفتاة ثياب الفرح الداخلية

علي مرأى من الجميع

وتمشي عارية

علي شواطئ ومراسي لا تنتهي

وسأنتقل مثل قرة قلب عصفور من مكان إلي آخر

وأهمس في أذن حُوت هاديء

بكل كلمات الحب التي أعرفها

ولا أعرفها

لم أطلب منكِ شيئاً…

طلبت منكِ ان لا تبكى أكثر

فأنا لم أعد أرى شيئاً…

.

نصوص مينا ناجي

الصور ليوسف رخا


قصة محمد ربيع: أحمال

$
0
0

في الأول من فبراير عام 1957، وفي مدخل قصر الأمير عبد المنعم، توقف ضابط شاب مواجهًا الأمير بصرامة معتادة. أخبره أن عليه الرحيل، عليه ترك القصر فورًا. بدون أن ينطق حرفًا، عاد الأمير إلى الداخل، ثم خرج وفي يده حقيبة، ابتسم للضابط، وتحرك نحو السور الجنوبي للقصر.

تعجب الضابط في البداية مما حدث، فللقصر مدخل واحد، يقع في السور الشمالي. وازداد عجبه حينما فتح الأمير باب غرفة ملاصقة للسور الخلفي ودخلها. في الداخل، احتد الضابط عليه، أدرك أنه خُدع، وأنه لم يتم مهمته بنجاح، هدده بطرده بالقوة، لكن الأمير ادعى أن هذه الغرفة ليست جزءًا من القصر، وهو لا يملكها، مع ذلك يستطيع البقاء والعيش فيها. قال له إن والده تخلى عنها منذ مدة طويلة، أخبره أن الشيخ أبو النور مدفون بها. أشار الأمير إلى هيكل في منتصف الحجرة مغطى بسجاد رقيق: ألا ترى القبر؟ ثم أدار سبابته في هواء الغرفة: هل ستأممون ضريحًا؟

في ذلك اليوم، بحث الضابط عن خريطة القصر في الملف المُعطى له، تأملها مرارًا أثناء كتابة تقريره، ذكر الضابط في تقريره أن الأمير قد غادر القصر بالفعل، وأن المهمة قد تمت على ما يرام، ولم يذكر حكاية الضريح أبدًا، لم يكن هذا تقصيرًا منه، ولم يكن تواطؤًا. أرفق الضابط خريطة القصر مع التقرير، وهكذا اطمئن لدقة تقريره أخيرًا، وأيقن أنه أتم مهمته على أكمل وجه.

تُظهر الخريطة مبنى القصر وحدوده. وفي السور الجنوبي يظهر جزء صغير مقتطع من السور، لا ينتمي للقصر، بل يبدو وكأنه جزء من الشارع، مكتوب عليه بخط دقيق: ضريح الشيخ أبو النور.

***

لا زلت أذكر أول مرة تجرأتُ وخالفتُ فيها أوامر أمّي. قالت: لا تشرب عصير القصب من الشارع، ملوث، ستمرض حتمًا إذا شربتَه.

أطعتُ هذا الأمر لمدة طويلة، وكنت مقتنعًا بأني سأمرض إذا ما شربته، ولا أعرف ما الذي دفعني لشرب الكوب الأول. خصوصًا أنّ برودة ذلك اليوم لم تكن دافعًا قويًا. كنت قد قطفت ياسمينة من الفرع المتدلي على الرصيف، وشاهدت امرأة تقف أمام نافذة الضريح الصغيرة، متعلقةً بالقضبان الرأسية للنافذة على الجانب الآخر من الشارع. وكعادة مريدي الشيخ أبو النور، كانت تهمس له بحاجتها، همس المحبين. أهذا ولهٌ أم طلب؟ ازداد اقتراب المرأة من النافذة حتى التصقت بها تمامًا، كنت أعلم أنها تبكى، لكني لم أرها باكيةً. ولما أتمت طلبها واعترفت بولهها، استدارت إلىّ وهي لا تعلم أني أراقبها والتقت أعيننا، ولا ريب أن النظرة دامت للحظة لكنها حُفرت في ذاكرتي إلى الأبد؛ وقفت المرأة بعينين رطبتين أمام النافذة التي تخفي ما بالداخل، وأمامها الجذع الأفقيّ لشجرة الضريح.

امتد الجذع خارج التراب رأسيًا، فقط لمسافة قصيرة، ثم انحرف بحدة لينمو في اتجاه أفقي، ثم عاد لينمو مائلًا، لينطلق ويتفرع فوق الضريح، وفوق الشارع كله.

تحركت خجلًا من تلاقي الأعين، وبعد عدة أمتار وقفت أمام محل العصير. طلبت كوبًا وشربته بتمهل على غير عادة الناس، ورائحة الياسمين في أنفي، والمرأة الولهانة في عيني.

سأمر بعد ذلك اليوم مرات عديدة ماشيًا في شارع الشيخ أبو النور، ولسنوات قادمة سأرى ضريحه وشجرته كثيرًا، وسأشرب القصب ورائحة الياسمين.

***

مشت صبرية وكأنها تطفو فوق الأرض، تحمل صينية الطعام للأمير. في مستقره الجديد داخل الضريح، جلس الأمير ليقرأ ويشغل الموسيقا. في الصباح يفتح الباب المطل على الحديقة، ويجلس بالداخل. يتابع ما يدور بين الأشجار، يتابع العاملين بالقصر، يراهم ولا يرونه. كان لا يزال يأمل في العودة إلى القصر مرة أخرى.

في اليوم الأول، لما دخلت صبرية الغرفة بعد طفوها، فكر الأمير: ستجلس بين ذراعيّ. وفكرت هي: سأقبّله. بدا الأمر حتميًا، وأصبح كل كلام قد يبرر ما سيحدث سخيفًا. ما أسقط الأمير على الأرض صريعًا كانت الأنامل الدقيقة، تلك التي أحاطت بالكوب وسلمته له. فكر الأمير: ربما تنكسر وتتشظى إذا ما ضغطت عليها. لابد من الإحاطة بتلك الأنامل. ثم تم الإجهاز على الرجل تمامًا، حينما مشت صبرية عائدة إلى القصر، حرة الذراعين. مشت وهي تعلم أن كل شيء زائل وأن عِرقًا جديدًا سيتضافر مع عِرقيها السودانيّ والصوماليّ.

تغلّب الطيش الحالي على الإحساس بالذنب المستقبليّ، وبدا لهما أن الحياة لن تدوم إلا ليوم.

wpid-img_7290-2013-05-18-02-06.jpg

كانت رحلة يومية؛ المشي من أول شارع أبو النور حتى آخره، ثم في شوارع أخرى حتى أصل إلي بيتي. ولا أعلم كيف حدث هذا؛ لكن تفاصيل المشي في الشوارع الأخرى غائبة عني، بينما تفاصيل شارع أبو النور حاضرة في ذاكرتي بقوة. حتى اليوم، وأنا أكتب هذا الكلام، أتذكر كل شيء.

لن أنسى أبدًا أول مشاهدة، أم أنها أول رؤيا؟ على باب المدرسة وفي وسط زحام الخروج، سمعتُ أن المترو قد دهس للتو زميلًا لنا. أسرعنا جميعًا لنرى الجثة، تحلقنا حولها، ورأيناه. لكني لم أفهم قط ما حدث، تفرقت أعضاء الفتى في دائرة صغيرة جدًا، وتخيلت أن أحدهم جمعها وكون منها كومة واحدة، ثم وجدت واحدًا من الواقفين يقوم بحجب الجثة بأوراق الصحف. وقفت قليلًا أحدق في تل اللحم المغطى ثم مشيت متجهًا إلى البيت.

هناك، في منتصف شارع أبو النور، وعلى الجزء الأفقي من فرع الشجرة الماثلة أمام الضريح، شاهدت لفافة قماشية بيضاء تحوى ما ظننته رضيعًا. عندما اقتربت، شاهدت وجه الطفل ناصع البياض، تمامًا كالقماش الذي يحيطه، كان نائمًا في وضع جنينيّ وكأنه لم يولد بعد. كان المشهد ككل أغرب من مشهد الأوصال المكوّمة الذي شاهدته للتو. وفكرت، كيف يترك أحدهم طفله هكذا بلا حماية. ورغم الغرابة البادية، إلا أن حميمية ارتبطت بالمشهد أيضًا. وقتها لم أكن أعرف معنى الكلمة، لكن الشعور كان جليًا.

للحظة، ظننت أن جذع الشجرة لم يكن مهدًا للطفل كما هو ظاهر، بل هو قبر له.

***

صحا الأمير وآلام بسيطة تشغل بطنه. ومع آخر اليوم ازداد الألم كثيرًا، وفي اليوم التالي تذكر أنه لم يتبول ليومين أو ثلاثة.

عاد الأمير من المستشفى محطمًا، كانوا قد أزالوا جزءًا من جسده في عملية مؤلمة. ظل يهذي أثناء إفاقته ويفكر في ما أودعه في جسد صبرية.

مرت أيام وهو جالس في غرفة الضريح، لابسًا جلبابًا مخططًا لا يبدله. يقوم ليتمشى قليلًا في الحديقة ثم يعود وقد أٌنهك جسده تمامًا. سرح بخياله متأملًا ما حوله معظم الوقت. قل طعامه وشرابه ثم عافهما تمامًا.

انهارت دفاعات جسده مرة واحدة، فعانى من حمى استمرت ليومين. قام بعدها هزيلًا لا يكاد يقف. ثم صحا من في القصر ذات يوم ليكتشفوا غيابه الكامل.

كانت ملابسه واسطواناته وكتبه في مكانها فظن البعض أنه ذهب ليتمشى حول القصر أو في الشارع الخلفي. انتظروا حتى حل الليل. لكنه لم يعد. كان برد فبراير في قمته.

في صبيحة اليوم التالي لاحظ أحد الحراس أن هناك تجمهرًا صغيرًا خلف القصر. أمام نافذة الضريح، كان الأمير يتدلى مشنوقًا من أحد فروع الشجرة. أخفت الأغصان جثته ليوم كامل واكتشفه أحد المارة بالمصادفة. انتفخ جلبابه المخطط بالهواء ثم التصق بجسده العاري بفعل الريح، فظهر جسده للجميع شديد النحول متخشبًا.

مر وقت وقت طويل قبل أن ينزلوا الجسد المتدلي من الفرع. أسندوه لوهلة على جذع الشجرة الأفقيّ ثم أدخلوه إلى القصر لتهيئته للدفن.

***

هذه أيامٌ عظيمة، أيامُ المدرسة، حمل همي آخرون، وظلّت كتفاي حرتين بلا أحمال. كنت كيوسف، بطل فيلم “الكيت كات”، أطير ولا ألمس الأرض بقدمي.

قالي لي أبي ذات مرة: استمتع قبل أن تَرفعَ الأحمال. كنت وقتها قد أدركت ما يرهق كتفيه. لكن قوله هذا أشعرني بالذنب؛ كيف أستمتع وهو مرهق هكذا؟ لم أكن لأتحمل ذرة مما يتحمل وكان هو حريصًا على إبعادنا عن كل هم. أعلم أنه تلقى همومًا كثيرةً فجأة. أثناء شبابه وخلال شهور قليلة وجد نفسه راعيًا لبيت اعتاد أن يكون أحد أفراده. كنت أتمنى لو أنه أشركني في همه، أولًا كي أعتاد القادم، وثانيًا كي يتخفف قليلًا مما يرهقه دومًا، لكنه لم يفعل. كان أبي يعلم أني لم أكن جديرًا بأي أحمال.

لكن لا مفر. لما بلغت الثلاثين كانت الأحمال قد تراكمت بالفعل، ولم أعد ألمس الأرض بقدمي أثناء المشي، بل صرت لا أرفعها من فرط الثقل. حفرت قدماي بصمات في كل طريق مشيته، حتى شارع أبو النور لم يخل منها. كنت أتمنى أن أنتهي وقد مشيت بلا بصمات، وبلا أحمال.

لكن ّما كان كان.

wpid-2013-02-2000-49-21-2013-05-18-02-06.jpg

بسرعة بالغة انتشر الخبر: تشارك الأمير عبد المنعم وصبرية في الفراش، وانتحر الرجل لشدة إحساسه بالذنب، وهي الآن تحمل جنينه ولا تعرف كيف تتصرف.

انتشار سريع حاسم. وبعد يومين من الكلام، بدا الخبر وكأنه في إطار عمل انتقامي موجه إليها، جارة حسودة، زميلة قبيحة، أو ربما رجل آخر اشتهاها سابقًا وصدته. أحدهم نشر الخبر الغريب، حكاه للجميع، حكاه لمن في القصر، لبوابي المباني المحيطة بالقصر، للجيران، للمارة، للباعة الجائلين، فعل يوحي بالشماتة ولا يتطلع للإخبار. ولما سُئلت صبرية عما حدث صمتت.

هذا صمت مزلزل، هذا صمت الموافقة. قالوا: سرقتها السكين. لم تعتد الكذب. تزني ولا تكذب.

أحاط الرعب بالقصر وبالشارع أول الأمر، ثم لما ردت بالصمت استراح الجميع، على الأقل، لم يظلم أحد صبرية بالكلام، والكلام أظلم من الفعل. هي فعلت ذلك وصمتت موافقة، وبقى الجميع في انتظار ما سيحدث، تسعة أشهر ونرى النتيجة، لا أكثر من تسعة.

قالوا: ستهرب حتمًا. ستبقى. ثم تساخف الشباب وأخذوا يسخرون مما حدث وسيحدث. قالوا: الأمير أحب الخادمة. ستلد أميرًا صغيرًا. بل ستلد ملكًا يحكم البلاد مرة أخرى. ستلد أميرًا، أو ستلد خادمةً. قالوا: بطنها ينتفخ. تمشي بتثاقل.

وبعد هدوء كل تلك العواصف، ومع انشغال الناس بأمور أخرى، قال القليل: لنتابع بطنها، علّنا نظلمها. لكنهم تذكروا صمتها فصمتوا.

***

رقد أبي مريضًا في مستشفى قريب، كان السكون قد أتم زحفه على جسده وأيقن الجميع أن الوضع سينتهي خلال وقت قصير ولا سبيل للعودة إلى الوراء. هربت من السكون، ومشيت خارج المستشفى حتى وصلت لأول شارع أبو النور. كان أذان الفجر يسرى في الهواء، والنسمات الصيفية ترافقه، عندما رأيت الطفل مرة أخرى. كانت هذه ثاني رؤيا للرضيع وقد مر على الأولى سنوات عديدة. بخلاف المرة الأولى، كان الرضيع جالسًا على جذع الشجرة الأفقيّ، يظهر بياضه واضحًا في الظلام، يحوطه الغطاء الأبيض. لكني رأيته هذه المرة متحركًا يضرب الهواء بذراعيه ضرباتِ من يحاول الفرار، من يلوّح لأبيه لكي يحمله، من يطرد موتًا يلاحقه. على نافذة الضريح، كانت شموعٌ قليلة تقاوم النسمات، تحاول أن تظل منيرة. تابعت المشي، وضربات الرضيع تسيطر علىّ. أخذتني رائحة الياسمين على مهل، ثم مررت على دكان العصير، وعلى الرغم من أنه كان مغلقًا، إلا أن الرطوبة المشبعة برائحة القصب كانت ملحوظة، تتكاثف على وجهي، استسلمت لها كما اعتدت، وتابعت الهرب.

***

بعد عام من الانتحار، تذكر الناس فجأة الحكاية، تذكروا أن صبرية لا زالت حاضرة وسطهم، وأنها لم تلد، ولم تغب عنهم لتجهض. كانوا قد تابعوا خلال الأشهر السابقة انتفاخًا في بطنها، فتأكدوا من الحمل، ثم لاحظوا أن عامًا مر عليهم والانتفاخ لا يزال موجودًا. تحيّر الجميع.

في حجرتها الصغيرة صارحتها ثلاث نسوة بما يضمرن: سنرى بطنك، لا مفر من ذلك. قالت آمنة: لا نفهم ما يحدث، ومللنا الكلام الفارغ في الخارج، ولابد من الوصول للنهاية. كانت صبرية قد أصبحت بطيئة الحركة بالفعل، بدا الانتفاخ ظاهرًا من تحت الجلباب، كل مشاهد الحمل كانت ظاهرة بقوة، لكن بلا مولود. رفعت صبرية جلبابها ببطء، كشفت عن بطنها، وبعد توقف قصير خلعت الجلباب. رأى الجميع الانتفاخ حقيقةً واضحةً بلا مداولات. لكنه كان أبعد ما يكون عن الحمل، انتفاخ عرضي يعلو البطن، ويقترب من الثديين. قالت آمنة: ليس حملًا، هذا ورم.

قالت النسوة: صبرية مريضة، بطنها متورم ولا نعلم سببًا لما حدث. ولا صحة لما قيل عن الأمير وسبب انتحاره. كان الكلام قاطعًا هذه المرة. مر العام والناس يتقلبون من فرط اختلاط المشاعر، فلما أتت البراءة اطمأن الجميع.

انتهى الأمر بشهادة النسوة الثلاث، قالت آمنة: من سيذكر اسمها بعد ذلك سنقطع لسانه. تذكر الجميع صمت صبرية فصمتوا.

wpid-img_9930-2013-05-18-02-06.jpg

في بداية مرضه اعتاد أبي أن يردد: اللهم خفف عني. ثم علم أن الخفة وسكونه لن يتآلفا، بعدها طغى المجاز على كلامه. ناداني في يوم اكتمل فيه يأسه. قال: ارفع الأخشاب عني. تحيّرت ولم أفهمه، كان راقدًا كعادته، أخبرته أن هذا ثقل المرض، ولا أخشاب. أشار بعينيه إلى غطائه القماشي: ارفع لوح الخشب هذا. رفعت الغطاء محاولًا إرضاءه، تابعه بعينيه ثم سكنتا قليلًا مختبرًا فرق الضغط على جسده، ولابد أنه لم يشعر بأي فرق فأغمض عينيه مستسلمًا.

ثم قل كلامه كثيرًا. قلتُ: أُشغل عبد الوهاب؟ فرد باقتضاب: لا. قالت أختي: كوب من الشاي؟ فرد بنزق: كرهته. قلتُ بعد مدة: أُشغل شادية؟ فلم يرد علىّ، واكتفى بتحريك رأسه.

أدعيت الجلد لكني كنت أهرب مع كل فرصة متاحة. ورأيت أن أحماله الحياتية قد زالت وحل محلها ثقل وهميّ، وحزنت لأن الواحد لن يخلو من الهموم حتى لو سكن وصمت. اكتمل صمتنا مع اكتمال سكونه، لكن أبرع تعليق قاله صديق عمره لما زاره ورآه ساكنًا صامتًا. قال: يا خسارة.

***

أمرت ثلاثون سنة؟ أربعون؟ في كل سنة يموت واحد، راح حراس المباني، والبوابون، والباعة الجائلون، وسعاة البريد، ومحصلو الكهرباء. ثم راحت الجارات، وراح العاملون في القصر، وحديقة القصر، ولم يتبق في النهاية إلا صبرية وآمنة.

عاشت آمنة مع ابنها في بيت قديم بالعباسية، رقدت على سريرها بلا حركة، لكن ذهنها كان صاحيًا. في يومها الأخير، أخذت تنادي صبرية. أشارت إلى ولدها، وأمرته بإحضارها فورًا، هذه الساعة بلا تأخير، قالت: هذا آخر ما أريد. ثم أخذت تناديها مرة أخرى. أتت صبرية متعجلة، لا تعرف ما يحدث سوى أنّ آمنةً تُحتضر وأن ابنها المهرول يود أن ينفذ رغبتها الأخيرة بأي ثمن.

جلست صبرية على جانب الفراش. حدقت آمنة فيها قليلًا سألتها عن حالها، عما حدث، أين ذهبتْ، كيف عاشتْ. سألتها عن من سافر ولم يعد. عن الراحلين. ثم أطالت الأسئلة عنهم. كادت الغيوم أن تختفي. وعند حد معين من الأسئلة توقفت. قالت: أنا أموت، أتمّي الأمر.

في تلك الليلة، وقفت صبرية أمام شباك الضريح لأول مرة منذ سنين عديدة، تعلقت بالقضبان وهي خجلة، بكت، واعتذرت عن ما حدث في حضرة أبو النور. وفي اليوم التالي دخلت إلى مستشفى قريب. صعدت إلى عيادة الطبيب، استلقت على سرير المرضى بدون أن تكلمه، قالت: أرحني. فسألها الطبيب عن شكواها.

***

أتذكر أيضًا يوم وفاتي؛ أسرعت سيارة الإسعاف لتنقلني من منزلي إلى مستشفى لم أعلمها، وجد السائق أن الشارع الرئيسي مزدحم، فقرر اختصار الطريق وقاد سيارته في شارع أبو النور. كنت ممددًا في السيارة، جذعي مائل مع ميل السرير، ونظري متجه نحو نافذتها، عندما لمحت الطفل للمرة الثالثة، هذه المرة كان قد نما قليلًا، كان يتعلم المشي، يخطو خطوات خرقاء، يرافقه رجل طويل، يلبس جلبابًا بيتيًا مخططًا، يمسك بيد الطفل بسعادة، ويتمهل أثناء مشيه، يثني ركبتيه قليلًا، يحني رأسه، يقترب من الطفل، ثم يجاريه في خَرَقه، فيفتعل التخبط. ركل الطفل الهواء بطيش مضحك، واستمرت ذراعه الحرة في الحركة العشوائية بكل تهور، ثم أوشك على التعثر والسقوط. كنت سأضحك حتمًا لو رأيته يسقط بعد كل هذه الشقاوة.

غاب عني كل إحساس بالخطر في تلك اللحظة، لم أكن أعلم أني سأموت بعد دقائق. على الرغم من مرضي الطويل، كان موتي مفاجئًا. حسنًا، الآن سأفترض سببًا لفرحة الطفل الساذجة، سبب سيرضيني حتمًا؛ ربما لأن الطفل علم أني سأموت قريبًا، قرر أن يقوم بحركاته الشقية تلك، أراد أن يلفت نظري بعيدًا عما سيحدث بعد دقائق، أراد أن يقول أنّ القادم أفضل. أو ربما، وهو سبب منطقيّ ويتوافق مع حدود معرفتي؛ أراد الطفل أن يتباهى بالرجل ذي الجلباب الذي يرافقه، وأن يلفت نظره.

***

أمام النافذة ترتفع شجرة الضريح كصوفيّ آخر. انحنى جذعها استعدادًا لتلقي ما بيد صبرية. فوضعت اللفافة التي تحوي جنينها على الجذع. كان الطبيب ذا يد خفيفة، جراح لطيف، أخرج جنين صبرية الميت بلا أضرار تقريبًا. قبل العملية، شرح لها ما عرفته منذ سنين عديدة: توقفت البويضة قبل أن تصل إلى الرحم، ونمت حتى أصبحت جنينًا صغيرًا، مات في أشهره الأولى. ولما أفاقت، أراها كتلة الجنين المتكلّسة، أراد تعزيتها على ما ظنه حزناً. قال: ربما لو عاش لتغيرت أمور.

لمست صبرية قضبان النافذة، وألقت النظرة الأخيرة على الجنين المتكلّس في قبره الخشبي.

قصر السراب – نوفمبر 2012

كتبت هذه القصة في ورشة جائزة الرواية العربية في أبو ظبي

محمد ربيع

الصور ليوسف رخا


حسين بن حمزة: لا عزاء للتماسيح

$
0
0

سعادتي برواية التماسيح قد تفهم خطأ. أعتقد أن الفترة التي كتبت فيها – وخلالها توطدت علاقتي بيوسف رخا – كانت من أغنى الفترات في وقت بدا قاحلا ومربكا … الحوارات الشاقة مكسِرة الرأس على موجة الثورة العالية والهابطة إلى القاع هي التي حولت مشاعر كان من الممكن أن تبقى مجانية تماما إلى كلام. من منا لا يدين لشخص دفعه الى الكلام؟ – مهاب نصر يوم ٢٠١٢/٩/١٩

.

على خلفية إسقاط النظام المصري، تعيد رواية «التماسيح» (الساقي) كتابة محطات أساسية لـجيل التسعينيات الذي انتهت أحلامه بتغيير العالم إلى انهيارات شخصية حاولت أن تجد سلواها في الثورة المغدورة

«أحياناً وأنا أستعيد حواراتنا ومشاجراتنا وكل السُّبل المعقدة التي ربطتنا ثم حلّت الرّباط، يبدو لي أنّ الفشل كان القيمة الوحيدة المحرِّكة في الدائرة»، بهذا الاعتراف الذي سيتكرر في صفحات وسطور أخرى، يُنهي يوسف رَخَا (1976) روايته «التماسيح» (دار الساقي). الفشل لا يُقدم هنا كنتيجة نهائية، بل كاستعارة كبرى تختزل السياقات السردية للرواية التي تتحدث عن تجربة جيل التسعينيات في الشعر والكتابة، والعلاقة مع الجيل السابق ومع المؤسسات الثقافية.

الفشل هو منطقة زمنية وفكرية يَعْلَق فيها الأبطال الثلاثة الذين أسسوا سنة 1997 جماعة شعرية باسم «التماسيح». الفشل هو ذريعة كي يعيد أحدهم (وهو المؤلف نفسه) تقليب أحداث الرواية ومصائر شخصياتها، بدءاً من صديقيه في الجماعة السرية: نايف وباولو، مروراً بأسماء أخرى مجايلة أو سابقة أو لاحقة لهم.

يشككنا يوسف رخا في الأسماء، ويدعونا إلى اعتبارها مستعارة. «طز في الأسماء» يقول في مستهل الرواية، لكن ربط بدايتها بانتحار الكاتبة والناشطة الطلابية رضوى عادل في السنة ذاتها، يُثير فضول القارئ إلى المطابقة بين الاسم المذكور وبين اسم حقيقي هو أروى صالح صاحبة «المبتسرون»، وإحدى أيقونات جيل السبعينيات والحركة الطلابية في مصر. التشابه في إيقاع الاسمين، يُسهِّل هذا التخمين، ويُبقي فضولنا في حالة يقظة إزاء أي اسم قادم. لعبة الأسماء هي جزء من لعبة الكاتب المصري في التعتيم الكامل على بعضها، ووضع إيحاءات كافية تكشف حقيقة بعضها الآخر. هكذا، تصبح الرواية محكومة بعنصري التخيّل والواقع معاً، ويصبح زمن الرواية بطلها الحقيقي، وتصير الأسماء مجرد تمثيلات لأفكار هذا الزمن وأمزجته. هناك أجزاء واضحة من سِيَر شخصية وأحداث واقعية طبعاً، لكن منطق السرد ومتعته موجودان تحت هذه الطبقة الواقعية، وفي نبرة الكتابة التي لا تُوصلنا إلى يقين كامل، خصوصاً أن المؤلف يتعمد الخلط بين الأسماء الفعلية والمستعارة سواء كانت لأشخاص أو لجماعات أدبية أو لمجلات وكتب صدرت في الحقبة ذاتها. الدائرة الضيقة تضم مؤسسي الجماعة السرية وعلاقاتهم العاطفية والجنسية: نايف مع «مون» التي «هندست حياتها بحيث تحصل على أقصى قدر من محبة من الناس حتى لو كانت المحبة سطحية وزائلة»، والراوي مع «صبا» التي «تجمع الناس حولها بالنفخ في بوقٍ يعجبهم صوته ثم تستخدمهم بشكل يومي في حياتها وفي إحساسها بالتحقق في الحياة». أما «نرجس» صديقة باولو «فكانت تستدرجهم بوصفها ضحية للفقر والقبح والتخلف»، قبل أن تُشهر هذه الأشياء «في وجه مسائليها كالشهادات والمناصب». تعريفات ومفاتيح أولية سرعان ما تتعقد وتتشعب مع تقدم الراوي في سرد الأحداث ومصائر العلاقات التي تعوم على علاقات أعمق مع أسئلة الكتابة وتحولات السِّيَر الشخصية وثقافات أصحابها القادمين من خلفيات محافظة أو ريفية، واصطدامها مع العاصمة. يربط صاحب «كتاب الطغرى» كل ذلك بمحطات مفصلية تتحرك بين 1997 سنة تأسيس «التماسيح»، و2001 سنة «الانهيارات التي أجبرتنا على تغيير حياتنا على المستوى الفردي»، و«الحرص الهستيري لمن بقي منا على الوظيفة والأسرة والاستقرار». الشخصي يظل ملاصقاً لما هو جماعي، حيث يُنشئ السرد علاقات ذكية بين «الانهيارات» الشخصية، وبين ركود الزمن الذي تعيش فيه هذه الشخصيات التي يموت بعضها كما هي حال نايف، وليث الحيوان (أسامة الدناصوري)، ويهاجر بعضها الآخر كما يفعل صقر الجنايني (هيثم الورداني) وأدهم اليمني (أحمد اليماني)، بينما يواصل المؤلف فتح ملفات أقرانه التماسيح، حيث يشغف نايف بالشعر الأميركي، ويقدم محاولات متعددة لترجمة قصيدة آلان غينسبيرغ «الأسد على حق»، وينفصل باولو عن نرجس. في الأثناء، يتسع السرد لتأريخ غير رسمي لحركة الشعر الجديد في مصر، وتفسح الرواية المجال لمتتالية زمنية يتم فيها تحديد أسماء أهم شعراء الفترة، وعناوين دواوينهم، إضافة إلى أسماء مجلاتٍ استقبلت نصوصهم المختلفة التي وقفت المؤسسة الرسمية ضدها. سيمر ذكر عباس بيضون ووديع سعادة وسركون بولص كاحتياطي خارجي يعزز ثقة الشعراء الجدد بما يكتبونه، ويدعم ازدراءهم بالكليشيهات السائدة. سنقرأ عن محاولة «التماسيح» لتقديم «مانفيستو» للشعر يتمثل في: الاستغناء والشهوة والتعمد، ويقارن الراوي ذلك ببيانات شعرية أخرى. هكذا، ستنتهي محاولة تغيير العالم بالكتابة إلى انهيارات وهزيمة، بينما تبدأ ثورة «25 يناير» التي «انتظرناها ونحن لا نعرف أننا ننتظرها»، كنوع من العزاء، قبل أن يخطفها الإخوان والتيارات السلفية. تخلط «الثورة المغدورة» أوراق الراوي وجيله في انتظار أن نقرأ جزءاً ثانياً كما يعدنا في الخاتمة.

حسين بن حمزة في الأخبار اللبناينة ٤ يونيو ٢٠١٣. اقرأ أيضاً: تهامة الجندي، روجيه عوطة

wpid-img_4137-2013-06-4-08-57.jpg


باولو ومون في جلسة اعتراف: مقطع من رواية الأسد على حق

$
0
0

عندي علاقة خاصة جداً مع القط عتريس.

من وسط حوالي عشرة عرفتهم يا باولو، ستة كان مزاجهم الضرب؛ تخيل أني كنت أحب منهم الوجع، آه! ومع ذلك أفظع شيء أحبه من دين أمك هو الحنان والرقة، تخيل!

أبي مات وهو مصدق أنه إقطاعي لمجرد أنه كان عنده أرض في المنوفية في يوم من الأيام. موظف فقير في وزارة الأوقاف فاكر أنه إقطاعي. لدرجة أن حبي لعبد الناصر كان ثورة على احتقاره للفلاحين.

أول حب في حياتي كتكوت (آه، آه، في بورسعيد – مكان ما تربيت – كنت أربي كتاكيت الفراخ). زعلت عليه بشكل فظيع لما مات بعد أسبوع.

من ساعة ما قامت الثورة والتماسيح في بالي. طول الوقت. نايف والفتيس ونرجس وصبا. حاسس أن التماسيح كانت هي الثورة. حاسس أن نجاح الثورة متوقف على صورة التماسيح في الذاكرة: هل هي كانت جماعة ناجحة.

بابا كان يستعمل جسمي. من وقت ما كان عمري سبعة لحد ما بقيت أربعة عشر. تقريباً بشكل يومي. أبي، مع أن إحساسي أنه زوج أمي أو أي واحد. لكن هو بابا. وأبشع حاجة أنه كان يحافظ على جسمي بشكل فظيع وهو يستعمله. كأني سلعة معمرة تشتريها بفلوس كثيرة وترجع تبيعها بعد عدد من السنين.

عمري ما فهمت موضوع الوجع في الحب بصراحة، لكن نجرّب. أوجعيني الليلة أنت، ممكن؟ من غير رحمة أوجعيني. وتكون بدايتنا الثانية مع بعض.

نايف كان ربنا بالنسبة لي. لما مات بالضبط كأني فقدت إيماني.

مرة حلمت أني أنيك أبي.

كنت متدينة جداً على فكرة. حتى فكرت أتنقب في فترة من الفترات. أنت عارف أن بابا كان من القيادات السلفية في بورسعيد في التسعينات. وعلى فكرة الإيمان حلو بشكل فظيع. تخيل الحياة من غير أسئلة. الإيمان فظيع صدقني.

معظم الناس تكره الوجع. الحيوان يكره الوجع. معظم الناس حيوانات. عندكِ شك؟

الشِعر حاجة غريبة. لما بطلته ارتحت. الظاهر أنه كان مجرد طريقة لمعرفة الناس مع أني صدقت نفسي فترة طويلة. لما عرفت الناس بطلت.

أحلى حاجة في الثورة الموت. القتل. الحاجة الوحيدة الحلوة في الثورة، إن جئتِ للحق، يعني قيمتها ومعناها. القتل.

وبابا كان يقول لي: “إنما المرأة سكن”. وكنت أحس براحة فظيعة وأنا أصلي وراءه. وكنت أنسى تماماً أنه يستعمل جسمي وهو لا يصلي. “إنما المرأة سكن”: الجملة مريحة بشكل فظيع. بالذات بصوت بابا.

نايف كان ابن قحبة يا مون. ابن قحبة وسخ، لكن أوسخ حاجة عملها أنه مات.

وماما كانت عارفة. كانت موافقة. من ساعة ما كلمتها في الحكاية وهي مريضة في السرير. هناك في بورسعيد، آه. كانت عارفة.

الثورة كذبة كبيرة يا مون. حتى عند الثوار هي كذبة. التماسيح كانت كذبة والثورة كذبة. لو كان عندنا دم كنا انتحرنا مع رضوى عادل.

أنا متأكدة أني مقتولة. في يوم من الأيام. أكثر من واحد ممكن يعملها. السؤال عن طريقة القتل. عندي طريقة محددة في دماغي.

حاسس أن نهايتي في بركة السبع. بشكل أو بآخر يعني. نهايتي مكان ما بدأت في بركة السبع-منوفية.

رضوى عادل كانت عبارة عن مخلفات أيديولوجيا معكوكة في إحباط جنسي. لا تقل لي مرأة ولا غير مرأة. زبالة. رضوى عادل كانت عبارة عن زبالة.

كل الناس تسافر إلا أنا.

واحد أحبه ويحبني بجنون – أنت مثلاً، آه أنت – يعضني في رقبتي ويصفي لي دمي. طريقة القتل المثلى بالنسبة لي، آه.

أغرب حاجة أن القطط أقرب لي من الناس. القطط تطاوعني. تعيش معي.

طول التسعينات كنت أحلم بالسفر. جاءت كذا فرصة وأنا أقول لنفسي لا. ولما قررت أخيراً سنة ٢٠٠٢ لقيت نفسي تأخرت. كأني محبوسة في التسعينات يا باولو. لو كنت سافرت من الأول!


عقل العويط: سكايبينغ

$
0
0

IMG_9030

 

إلى عقل العويط زاعماً أنّه الشخص الثاني في هذا الحوار

- حسناً. سأفترض أنّه الفجر، أو ما بعد منتصف الليل. يحلو لي أن أُحاور أمزجتكِ كما لو أنّكِ لا تزالين نائمة. كما لو أنّكِ تحلمين. أوهِميني فقط أنّكِ هنا، وأنّ غرائزكِ تنمو في الليل، مثلما تنمو شياطين على حافة هاوية. كلِّميني بإشارةٍ من جسدكِ، كي لا أبقى أكلّم نفسي، كما أفعل مذ وُلدتُ، وكما يفعل ممثّلٌ وحيد على خشبة مسرح… في العرض الذي يسمّونه بالإنكليزية “وان مان شو”.

- …

- سأزعم أنّكِ هنا، وأنّكِ تتقمّصين إحدى مرايايَ. دورَ كاتبة، أو عشيقة عابرة، أو الاثنتين معاً. حاوِريني كما لو أنّي شخصٌ عابرٌ وخفيف. إشارةٌ واحدةٌ منكِ تكفي لأتواصل مع نومكِ الافتراضيّ العميق. هكذا أستطيع أن أحاوركِ راوياً كيف أنّ الدنيا، هذه الدنيا، تأخذ عينيَّ من دون أن تدري، سراجَين لنجمةٍ مضيئة.

- …

- لن أفترض أنّكِ عابسة، لئلاّ أظنّ أنّكِ تُصابين بالكوابيس. سأفترض أنّكِ تبتسمين، كعلامةٍ من علامات الرضى. سأفترض فقط أنّكِ هنا، وأنّكِ تُنصتين إليَّ بدون صوت. وتبتسمين. أحياناً أقول: تضحكين. وتحاورين. لذا يمكنني الاستنتاج أنّ ما بيننا من نزق الافتراض جديرٌ بأن يُسمّى “تشاتينغ”، لكنّي سأسمّيه، تجاوزاً، “سكايبينغ” من كلمات. “سكايبينغ” كتابيّ، بين شخصَين افتراضيَّين، أحدُهما أنتِ. في هذا الـ”سكايبينغ” أراكِ، وعينايَ ذاهلتان. وفيه نتبادل الكلمات، ولا نكاد نكون موجودَين.

قد تسألينني لماذا أسمّيه “سكايبينغ”، مع أنّ هذه الكتابة، وما يُفترَض أنّه شِعرٌ مَعيشٌ بيننا، قد لا يكونان من الـ”سكايبينغ” في شيء. سيطرح عليَّ القارئ السؤالَ نفسه متعجّباً، وسأجيب أنّي أحببتُ الفكرة والتسمية والتجربة معاً، وأنها محضُ نزقٍ افتراضيٍّ متعسّف فحسب. أسألكِ، وأسأل القارئ، أن تسمحا لي بهذا النزق.

فها أنا أمثل وراء شاشة كومبيوتر، وأجدني أُحاوركِ عبر الـ”سكايب”. لكنّكِ لستِ هنا، فيما شاشتُكِ مفتوحةٌ على غرائزها وخيالاتها، أخاطبها وتخاطبني، وأحياناً تلوذ بالغياب والصمت. يُغويني أنّي أختلق ذريعةً تواصلية لأفتح شاشتي على فانتاسماتها وذكرياتها. ويُغويني أنّ شاشتكِ مفتوحةٌ هنا. هل أقول إنكِ أنتِ التي ها هنا؟

… ها أنتِ تبتسمين لي. أعتقد أنّكِ تجيئين من نومٍ افتراضيٍّ عميق. حسناً. فلنتحاورْ، مفترضَين أنّنا نتحاور، لئلاّ تقتنع نفسي بأنّي أحاور نفسي، أو مرايايَ، على طريقة “وان مان شو”، أو على طريقة نرجس.

***

- صباح الخير. تُغريني، يا أنتَ القادم من ماضٍ عميق…

عقل العويط

.

* من كتاب بالعنوان نفسه يصدر قريباً لدى “نوفل”.


لقد أتوا من بعيد ليحاكموا جنسنا: قصائد ميشيل هولبيك ترجمة صلاح باديس

$
0
0

michel_houellebecq

.

1
كنت وحيدا خلف مقود البيجو 104
مع ال 205 كنت لأبدو أكثر لؤما
كانت تمطر بغزارة و أكره أن أتشاجر مع نفسي،
بقي عندي 3 فرنكات و 55 سنتيم.
.
ترددتُ أمام تفرّع “كولمار”
هل كان من الحذر أن أترك الطريق السريع؟
رسالتها الأخيرة تقول: سئمت منك و من مشاكلك.
سخافتك تقززني.
.
علاقاتنا باختصار عرفت نوعا من البرود،
الحياة دائما ما تفرِّقُ العشاق.
مُطرطقا أصابعي ومن دون أن أفقد عزيمتي
أخذتُ في إنشاد مطلع « Vie de Bohéme »



.
2
“الألمان خنازير، لكنهم يحسنون تشييد الطرقات”
كان يقول جدي بروح حسّاسة و ناقدة.
كنتُ متوترا، التعب من دون شك،
ولكني استقبلت بفرح الزفت الألماني.
كانت الرحلة تتحول إلى انهيار
وكنت على حافة نوبة هستيرية.
.
كان لدي ما يكفي من الوقود للوصول إلى فرانكفورت
هناك أكيد أني سأربط صداقات
وبين حبتي نقانق سنستخف بالموت
سنتكلم عن الإنسان وعن معنى الحياة.
.
أتجاوز شاحنتين لنقل اللحوم
ومن سعادتي بهذا المشروع أدندن أناشيد…
لا! لم ينته شيء، الحياة وتضحياتها
تمتدُ أمامي، جليلة ومبهمة.
.
الزائرون
هم الآن مجتمعون في نصف دائرة
ترتعش أصابعهم و تُزهر
و في كل مكان ينمو جو من الترقب
إنه يوم المغيب، لقد جاءوا من بعيد.
.
لقد جاءوا من بعيد وليسوا خائفين
كانت الغابة باردة ومُقفرة
عرفوا بعضهم البعض بإشارات الألوان
أغلبهم مجروح و نظراتهم جامدة.
.
يسود على هذه القمم صمتٌ مقدّس
تثبت السماء و يعود كل شيءٍ إلى مكانه
جثا الأول وكانت نظرته قاسية
لقد أتوا من بعيد ليحاكموا جنسنا.
.
اُحب المستشفيات
اُحبُ المستشفيات، ملاجئ المعاناة
حيث يتحول العجائز المنسيون إلى مجرد أعضاء
تحت النظرات الساخرة وغير المبالية
يهرش المرض أجسامهم وهم يأكلون الموز.
.
في غرفهم المُعَّقمة والقذرة
نرى بوضوح ضوء النيون يترصد حركاتهم
خاصة عندما يتريضون في الصباح
مطالبين، بصوت أقرب للنواح،
بسيجارتهم الأولى.
.
العجائز يعرفون كيف يبكون بصوتٍ خفيض
ينسون الأفكار وينسون الحركات
هم لا يضحكون، وكل ما تبقى لهم
لبضعة أشهر، قبل المرحلة الأخيرة،
.
بضع كلمات! غالبا ما تتردد،
شكرا لستُ جائعاً، سيأتي اِبني يوم الأحد
أحسُّ بألم في أمعائي رغم ذلك سيأتي اِبني
الابنُ ليس هنا، وأيديهم قد صارت بيضاء.
.
الموت صعب
الموتُ صعبٌ بالنسبة للعجائز الغنيّات
محاطات بفتيات جميلات تناديهن “حلوتي”
يضغطن بمنديل حريري على عيونهن الرائعة
وهنِّ يقمن لوحات وأنتيكات.
.
اُفضِّلُ موت عجائز الأشالام*
اللَّواتي يتصورن حتى آخر أيامهن أننا نحبهن
مُنتظرين قُدوم الابن المُفترض
الذي يدفعُ حقَّ تابوتٍ من خشب الصنوبر.
.
العجائزُ الجِدُّ غنيّات ينتهين في المقبرة
مُحاطات بأشجار السرو
إنها نُزهة لأترابهن الستينيين
للسرو رائحةٌ جيدة تطردُ البعوض
.
عجائزُ الأشالام ينتهين في محرقة للجثث
في دُرْجٍ عليه بطاقة بيضاء
العمارة هادئة، لا أحد -حتى يوم الأحد-
يُزعجُ نوم الحارس الأسود.
………
*الأشالام HLM مجّمعات سكنية في فرنسا للفقراء وأغلبيتهم من الأفارقة والمغاربة.

.
Made with Repix (http://repix.it)

.

قُلوب كثيرة
قُلوب كثيرة دقّت على هذه الأرض
والأشياءُ الصغيرة المحشوة في الخزانات
تحكي القصة الكئيبة والمُحزنة
لأولئك اللذين لم يعرفوا الحُب على هذه الأرض.
.
الأواني الصغيرة للعجائز العزّاب
الملاعق المتآكلة لأرملة الحرب
يا الله! ومحارم العجائز الآنسات
داخل الخزانات، ما أبشع الحياة…
.
الأشياء مرتبة بعناية والحياة خاوية
والتسوق في الليل من بقايا البقالة
تلفزيون من دون مُتابع، وجبة من دون شهية.
.
أخيراً المرض، الذي يجعل كل شيء أكثر قذارة
والجسد المتعبُ يتحللُ في الأرض
الجسد الذي لم يُحِبْ ينطفئ من دون سحر.
.
.
.
القصائد المترجمة من ديوان “تتابع السعادة” la poursuite du bonheur أو the pursuit of hapiness المنشور عام 91 و كان ثاني ديوان لهولبيك بعد “البقاء حيا” Rester vivant عام 91 أيضاً.
أغلب القصائد فيه نُشرت من دون عنوان، والقصائد المترجمة هنا – باستثناء “زائرون” وأول قصيدة وردت مرقمّة – عُنونت بأول بيتٍ فيها كما وردت في الفهرس. القصائد كتبها هولبيك بطريقة كلاسيكية و لكنه تناول فيها الحضارة الغربية، موضوعه الأثير، بكل جوانبها المظلمة، أو الفوضى التي توجد خلف اللافتات الإشهارية العملاقة المُبهرة. وحتى عندما بدأ في كتابة الروايات، جاءت كتابته كرد فعل على الروائيين الذين يكتبون وفق تقاليد “الرواية الجديدة” مهتمين بصدى كتبهم في الوسط الأكاديمي ومهملين الجمهور الواسع، و قد صرح في حوار مع مجلة باريس ريفيو سنة 2010 قائلا في ذات السياق: الناس كانوا يريدون أن يقرأوا عن الحياة اليومية التي تدور في المكاتب و الشوارع و البيوت.


ليس هذا هوساً بالجنس |محمود عاطف: قصائد وخط

$
0
0
وقد يجمع الله الشتيتيْن بعدما ... يظنّان كل الظنّ أن لا تلاقيا- قيس بن الملوّح

وقد يجمع الله الشتيتيْن بعدما … يظنّان كل الظنّ أن لا تلاقيا- قيس بن الملوّح



البحث عن حبيب

أحببتُ فيلًا.


تقول أمّي:

ولماذا الفيل؟!

ابنة خالتك أولى.



أحببت جملًا.


يقول أبي:


ولماذا الجمل؟!

ابنة عمك أولى.



أحببت لبؤةً.


تقول نسوة في المدينة:


وراودته التي هو في عرينها


عن بناتنا.



أصبحتُ راهبًا 
ونباتيًّا بلا معاناة.

يقول أصدقائي:


دُلّنا على الفيل


دُلّنا على الجمل


دُلّنا على اللبؤة.

إلى “دُخْدُخ”

كانت أحزاننا عادية

وصغيرة

يمشي الواحد في الشوارع 
مطوّحًا يديه في الهواء

لكنّها – فجأة – تعود أثقل مما كانت!

عندك مثلا ذلك الرجل الطيب “دولوز”

لم يقصد أن يسبق الحياة بخطوة

فمات منتحرًا

بجرعة زائدة من الفلسفة،

و”نيتشه” القريب من روحك

طيّب قلوبنا بميكانيزمات الشدّة

لكنّ ذلك السوبر مان بكى

أي والله ياخي بكى.

سيقول لك أحدهم:

يمكن للواحد أن يتخلّص من ذراعه

وليس أسوأ من هذا المجاز المازوخي!

كيف يمكن للواحد أن يتخلص من ذراعه؟!

أولًا: نفّض ما على ذراعك جيّدًا

ثانيًا: املأ به دُرجًا، طابقًا، بيتًا

ثالثًا وأخيرًا: إذ يصير حزنك مشروع مدينة،

ابكِ على مداخلها

فأنت لم تعرف بعد

كيف تقوّض أساساتها بالكتب!

طُف في ممرّاتها المظلمة

وصاحب اللصوص والأوغاد

هم سيرشدونك لمراوغة الحزن

أما أصدقاؤك، فلا تبكِ إلّا لهم

وإيّاك أن تعطيهم خريطة مدينتك

فالدناءة تكمن في خطوط الطول والعرض.

هذه وصفة جرّبها كبار الفلاسفة

ثم جلسوا يبكون طويلًا

كأنهم خلقوا من ملح.

لنبكِ إذًا هذا الملح

ثمّ نسأل الهاوية

من الذي جعل العالم 
مباراة رفع أثقال؟!

وبي من الشجو من تغريد ملهمتي ... ما قد نسيت به الدنيا وما فيها- أحمد رامي في رثاء أم كلثوم

وبي من الشجو من تغريد ملهمتي … ما قد نسيت به الدنيا وما فيها- أحمد رامي في رثاء أم كلثوم


إلى “إنجي سوّاح”




فيما مضى، كنتُ موزّعَ أحلام

حتّى أنّهم سمّوني “ابن الله”.


وكلّ صباحٍ كنتُ أستردّ هداياي:

جنّيّاتٍ صغيراتٍ برائحة الفراولة

لأوزّعها- ليلًا- من جديد


على زبائن آخرين.

من تاه أبوها في زحام الموتى


حملتْهُ جنيّة ليقول لابنته: أحبّكِ،

أخرى همستْ لفتًى بالأمس:


ما ينتهي ينتهي


“ككلّ أشياء الحياة”،


والذي تمنّى الموت ألف مرة


جاءته جنيّة ببحرٍ من الآيس كريم


فدعا الله أن يُحييه مائة عام أخرى.



كلّ صباحٍ


كنتُ أعرف هذه الحكايات، وأكثر


ثمّ – بأسًى – أتذكّر أنّني لا أحلم،


أنّ “ابن الله” ينقصه خيال الله.



*

أيها السيد النبيل


أيتها السيدة الفاضلة


يا من بيدكم جنيّة أحلامي


هلّا ترسلونها من فضلكم؟

!
وبإمكاني عقد صفقة مربحة.



*


الآن، أحلم كل ليلة تقريبًا،


ما عادت في يدي جنيّات،


يزورني الموتى من وقتٍ لآخر


لستُ حزينًا على شئ


لستُ سعيدًا بما يكفي


وغدًا، أُطْلق جنيّة أحلامي،


ثمّ أنام،


أنام كثيرًا جدًا،


كثيرًا بما يكفي لكي يصبح العالم

بحرًا من الآيس كريم.

عجبت منك ومنّي يا منية المتنّي أدنيْتني منك حتّى ظننت أنّك أنّي الحلّاج

عجبت منك ومنّي يا منية المتنّي أدنيْتني منك حتّى ظننت أنّك أنّي الحلّاج


ليس هذا هوساً بالجنس

جبهتكِ تمطر فوق جبهتي


فتخرج من فمي وردة


أضعها جانبٍا


ونقرر فيما بعد


من يكون سعيد الحظ.



الأسبوع الماضي كان أبوكِ


وضعناها فوق قبره.


قبله بأسبوع


وضعنا الوردة على قبر أمي


واليوم لا نعرف من؟


هل يكون قبر أبي،


أو قبر أمكِ؟



هكذا، كل لحظة حب بيننا


تولّد حياةً

تكون رفيقًا لأخرى ولّت.


ألم أقل لكِ


ليس هذا هوسًا بالجنس


نحن فقط


خالقان جديدان.

نصوص وأعمال محمود عاطف

 

 

 

 

 



فصل الاسم (فصل من كتاب “مذكرات أب لا يجيد الحكايات”): بهيج وردة

$
0
0

لطالما رغبت أن يكون المولود الأول في عائلتي بنتاً.

كنت أتوقع أن هذا الموضوع مبني على ردة فعل، مفاده تقليد متوارث على أساسه يفترض أن يقوم الابن البكر بتسمية مولوده الذكر البكر على اسم والده، وبالتالي يحمل الولد اسم جده.

من حيث المبدأ كنت رافضاً للموضوع، رغبة مني في كسر تقليد مجتمعي أولاً، وثانياً لأن اسمي يطابق اسم جدي في الاسم واسم الأم أيضاً – مصادفة غريبة، وبالتالي على ولدي أن يحمل اسم أبي واسم جد أبي، أي يصبح ابني ابراهيم الثالث –في حال المولود الذكر، وفي رأيي لا داع لهذا التقليد.

وأنا أفكر في الموضوع أسأل نفسي، أين سيذهب انتقادي للأنظمة السياسية العربية الفاسدة التي تتوارث السلطة، وترسخ العادات في محاولة منها لإيجاد مبررات الحياة الكريمة لها فقط دون شعبها؟. كيف سأستمر في الحياة وأنا أنتقد والدي الذي أتهمه بمشابهة نظام الحكم في ممارساته وقمعه للديمقراطية والتعددية وأنا أمارس التوريث، وأخضع لإملاءات المجتمع، واسمي ابني على اسم أبي!!

عندما ولدت أنا كان والدي ينوي أن يسميني آرام اسم أخي الأصغر الذي ولد بعدي بأربع سنوات، إلا أن جدي حزن لهذا القرار، وكاد يقاطع والدي على هذه “الثورية” التاريخية ورغبة الابن القادم من أوروبا بأفكار “التحرر” أن يكسر ما يقدر عليه. إلا أنه في هذا الامتحان سرعان ما تراجع أمام البنية العاطفية الهشة التي يتمتع بها كشرقي. وبهذا فوّت عليّ فرصة أن أحمل اسماً تاريخياً عظيماً، وتركني فريسة الوراثة العائلية، إلا أنه هذا ما منحني الكثير من امتيازات الابن البكر الحفيد/ الجد.

لكن كل ما سبق لا يعني أني عانيت أزمة مع اسمي، لقد أحببته وأشعر بامتياز الاسم الذي أعطاني من صفاته الكثير، إلا أني عوضت هذا في الفضاء الافتراضي وجعلت اسمي “آرام” وأضفت عليه “شام” إمعاناً في الحسرة. وفي هذا تناقض كبير، رغم اسمي الموسيقي “بهيج وردة” والذي يراه الكثير من زملاء المهنة اسماً يليق بصحفي –لا أدري على أي أساس مبني هذا النغم الموسيقي، ربما هو وقعه الموسيقي في الأذن!!

قصة اسم المولود القادم لم تناقش إلا مرة واحدة مع الوالد على “سكايب”، نظراً للبعد الجغرافي بين الإمارات حيث أقيم، وسورية حيث يقيم.

مرة واحدة فقط مرّ ذكر الاسم قبل أن نعرف جنس المولود، وأخبرته أني لن أسمي ابني ابراهيم، لكن لم نقع على خيار بديل أنا وزوجتي حين كنا نتحدث عن اسم المولود، وكان لدينا ما يشبه اليقين أن المولود أنثى، وطبعاً اسمها مكتوب في منتصف السطر الثاني في الصفحة 85 من ديوان نادين الصادر عن دار نينوى بدمشق عام 2012 “أخفي الأنوثة”، من القصيدة المؤرخة بتاريخ 2010 أي قبل زواجنا بعام، والواقع أن نادين أخبرتني منذ التقينا أنها تنوي تسمية البنت التي ستنجبها مني “جنى”،  وهذا كان في العام 2006 أي قبل أعوام من كتابتها القصيدة أيضاً.

إلا أن شقيقتي الصغرى صوفيا، طرحت السؤال مباشراً. هل ستسمي ابنك ابراهيم في حال كان المولود البكر ذكراً. لا قاطعة كان جوابي. لن يكون ابراهيم أبداً. واستكمالاً للبنية العاطفية الهشة، لم نصارح الوالد بهذا الكلام، وبقي الحديث بيننا. وانطلقت بعدها مع نادين في رحلة البحث عن اسم للمولود وكان أكثر الأسماء حظوة لدينا هو “مدى”، بناء على رغبتنا في اسم ثلاثي لابننا.

نادين طيلة شهور الحمل الأولى كانت في حالة إنكار للمولود الأنثى التي ترغب بها بشدة، واخترعت تسمية لطفل افتراضي في بطنها، وبحثت طويلاً على النت حتى وجدت صورة له أيضاً، وسمّته كوكي. كل الوقت كان الحديث يدور عن كوكي المفترض، وكوكي فعل، وكوكي رفس، وكوكي يعذبني. حتى جاء موعد الفحص الدوري عند الطبيبة، التي لم تنجح في معرفة جنس الجنين لأنه كان في وضع لا يظهر ما بين رجليه.

واستمر كوكي في حياتنا، وصار كوكي تسليتنا واختراعنا. لوهلة صدقت أو ربما تواطئت مع حدس الأم، وكذبت حدس الأب. أترى يخيب حدس الأم؟. في الواقع كانت موقنة أنها فتاة، إلا أنها أصرت على تكذيب نفسها، حتى جاء الموعد الثاني قبيل سفرها إلى سوريا لمناقشة الماجستير في اليوم الأخير قبل انقضاء المهلة المحددة لها، في ظل حرب الإخوة في سوريا، ووضع سيء غير مسبوق في حمص.

يومها تمنيت بكل جوارحي أن يكون الجنين في وضع يسمح بكشف جنسه، وكذا تمنت نادين. “من غير المعقول أن أسافر إلى سوريا دون أن نعرف جنس الجنين”، قالت حبيبتي. وهكذا كان. “مبروك، بنوتة”. صرختُ “إنها جنى”. فابتسمت الطبيبة قائلة “ابنتي جنى عمرها 4 شهور”، فوعدناها بدجاجة وكماجة جرياً على رأي المثل الشعبي.

لطالما سحرتني أسماء الفدائيين أيام طفولتي، فأسماء من قبيل أبو تالة، وأبو دلال، وأبو ليلى كان لها رنين في أذني. لمَ لا يتكنى الرجل بابنته البكر؟ أم هذا وقف على المنكوب بالبنات؟ وهل البنات نكبة؟ و”همهن للممات”؟ اللعنة على المجتمع الذي يرفق ولادة البنات بالهمّ حتى الممات؟ ألا يرافق همّ الصبيان العائلة حتى الممات؟ لكني لم أختر اسماً محدداً.

أذكر أني كنت معجباً باسم فتاة من طالبات والدي في الجامعة، كان اسمها “شاميرام”. أحببت الاسم؟ لكن “أبو شاميرام” لم يكن له وقع، فبقيت “أبو ابراهيم” في طفولتي كما يردد الجميع ولم أعترض على التسمية، وهي التسمية التي لا يزال بعض أصدقائي على استخدامها حتى مع قدوم جنى.

إلا أن اسماً جديداً قفز إلى الساحة حين كنت في ضيافة عمتي الكبرى ماري قبيل أحد امتحاناتي في التعليم المفتوح بدمشق. فقبل أن أخلد للنوم في غرفة الجلوس التي يوجد فيها التلفزيون وبعد خلود الجميع إلى غرفهم طلبت أن تحدثني في موضوع على انفراد، وكانت الجدية بادية عليها.

اعتدلت في جلستي وبدأت أصغي.

قالت: “عندي أمنية أتمنى أن تنفذها، وأنت الوحيد القادر عليها”.

كاد فضولي يقلتني وقتها حتى أعرف الأمنية، لكنها استدركت بالهدوء نفسه “أرجو منك في حال أنجبت زوجتك بنتاً أن تسميها ماري”.

وقتذاك استغربت الحديث جملة وتفصيلاً لأني لم أكن مرتبطاً حتى!! إلا أنها عادت لإيضاح السبب: “لن يستطيع أحد تكرار اسمي سواك، فلا أحد يحمل اسم أبي “بهيج” سواك، ولو سميتها ماري سيكون اسمها ماري بهيج وردة، وهو بالضبط اسمي الكامل”.

يومها لم أجد ما أقوله لها سوى أني أعدها بإحضار ابنة الحلال التي سيختارها قلبي لتعرض الأمر عليها بنفسها، على اعتبار أن اسم البنت يترك عادة –بحسب المجتمع- للأم دوناً عن الأب في تقاسم للأدوار، وكأن هناك اشتراطاً أن تنجب الأم ابناً وابنة، أو أن لدى الوالدين قدرة على التحكم في عملية الإنجاب تلك!!


مينا ناجي: صيفٌ صغيرٌ في بداية الشتاء

$
0
0

((شمس المحاسِن بوجهَك ساطعة عَذْرا))

Lu Kowski. From the project "Melancholia". Source: lu-kowski.com.

Lu Kowski. From the project “Melancholia”. Source: lu-kowski.com

.

صيفٌ صغيرٌ في بداية الشتاء:

حتي وأنتِ تنتفضين في رعب يا حبيبتي

أمام الحروب الخاسرة

علي مرأي من أعيننا

واتجاهلها أنا في عناد طفولي

متشبثاً بثديك المكور والصغير مثل دفقة حب

تنمو في وجه القبح حولنا

***

البارحة وجدوا قطاراً تائهاً بعد ٨ سنوات

هكذا أعلنوا في الأخبار

فجأة كومة الحديد وجِدَت من لا شئ

كان منظره حزيناً

لا يشمل فرحة الإنقاذ

تراب وحديد كثير

كأنه شرب يأس الانتظار ونام

مغطي بأحلام الصحراء

“التفتْ  وراءك”

الخواء كان صادماً

مرآك يا حبيبتي

كنزٌ مخبأ تحت قطار صغير

يحلم أن الملائكة السعيدة

تكسب الحروب

وتتكوم حول صدرك مثل ندفات ريش

مغنيّة:

صيف صغير في بدايات الشتاء

بلون حمرة القلب المُشبعة برأسك.


أهداب: ناهد نصر

$
0
0
From the series "House Secrets" by Youssef Rakha

From the series “House Secrets” by Youssef Rakha

ليديك أسلوب

يشبه عازف بيانو

يلوح ذراعيه مستعرضاً

قبل أن تضرب أنامله العاج بقسوة خبيرة

تشد أهدابي

حتى احمرار العينين

وحتى الدموع

بينما شفتاك ترسمان ابتسامة حانية

وكأن لا شئ يدعو للألم

أنا اتبع ظلك

ينساب طولًا وعرضًا

بتغير الاوقات ومسارات الشمس

فأدور بغير انتظام، أقترب من التطابق

مع الخيال

*

بسادية محرك دمى تتأملنا

والابتسامة لا تفارق وجهك

قرب الفجر

أضبط أرنبة انفك

تتمسح بمنحنيات الجسد بفضول

بخفة مكتومة

كذبذبات الصوت في غرفة التعذيب

رنين متقطع

عصي على اللمس

يغرس إبره الحادة في المسام

*

هل أنت شيطان

أم تتلبسك روح ادم

أغراه نزق حواء

ومع القضمة الأولى

قرر التوهان في أرض التفاح

ولم يزل يلومها على التهور

*

أهدابها مشدودة

وهو يواصل ضرب أصابع البيانو

تدور حول ظله

كخيال

لا تتوقف مسامه عن النزيف


صلاح باديس: منحنية تفتح مطاريتها، منحنية في صف الملابس

$
0
0
Illuminated Qajar manuscript, 1824. Source: islamicpersia.org

Illuminated Qajar manuscript, 1824. Source: islamicpersia.org

يقيس الزمن، بآثار السنوات على مؤخرتها. منذ أن رآها مشدودة داخل الجينز في قاعة المُحاضرات بالجامعة. عارية ذات ظهيرة مُمطرة داخل نفس القاعة. سمراء، تحت أشعة شمسٍ، سُمح  لها بدخول مسبحٍ خاص. يقيس الزمن ويُمرّر يده. صارت أكبر، تُشبه قاعدة تمثال، أو وسادة منفوخة. لكنّه ظلّ مشدوداً كحمار يتبع جزرة. رآها تُحيط بها الممرضات ليخرُج طفلٌ كأنه دجاجة بلا ريش. مُنحنية تفتح مطاريتها قبل أن تخرج من السيّارة. تنحني لتقفل الحزام على الرضيع في السيّارة قبل الانطلاق للحاضنة. مُنحنية في صف الملابس الداخلية بالمركز التجاري. يحملُ الطفل لينام ثم يعود ليحملها، وسط الإيلاج يُعاين نسيج الجِلد، عينه تحسُب الترهلاّت الرقيقة، الكدمات الزرقاء التي خلّفها مروره آخر مرّة… صارت أكبر يقول لنفسه، وهو يُخلّف كدمات جديدة. يجلسُ في السيّارة، بعد العمل، ينتظرُها. يراقب بطنه المُندلقة فوق حزام المقعد. من آخر الشارع تظهر، نفس المِشية مُنذ عشر سنوات. مُنذ أن كان يُمازحها حول مؤخرتها وكوب القهوة في يدها: لا تُحركيها، نشربها مُرّة.

صلاح باديس: الشركة الوطنية لانتظار القطارات

$
0
0

By Youssef Rakha

عام 1992 كنت أعمل في المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية. وِحدة مدينة الرغاية، في المنطقة الصناعية للمدينة الصغيرة. أقرب لبلدة. هادئة بملتقى طرق رئيسي كولونيالي، فيلات صغيرة واطئة ومقاهي مفتوحة نهارا هنا وهناك. كانت آخر بلدية في شرق مدينة الجزائر، وتقع وسط خط القطار (محطة الجزائربومرداس)، لم تكن بعيدة عن المنطقة الصناعية حديثة النشأة والممتدة بينها وبين رويبة، الأكبر مساحة والأجمل من حيث العمران. عندما زرت رغاية أول مرّة كانت بدعوة من صديق يعمل في الشركة الوطنية للبناء SENESTAL، كان قد سكن هناك في حي جديد، هادئ وقد بُني أمام الملعب البلدي وثانوية ومقبرة صغيرة بسور واطئ قال لي أنّها كانت لليهود. ‘ عمران وظيفيهكذا فهمت بعدما أراني شقته، غرفتين وصالة، مطبخ وحمّام، ونوافذ طويلة وضيقة. يعني بيت بني لغرض ما: إسكان عائلة صغيرة مطابقة لمواصفات العائلة المثالية في الدستور. لكن الناس في ذلك الوقت لم يكونوا مهتمين كثيرا بما يقول الدستور، أو كم غرفة في البيت، الأراضي الفارغة حول بلديات ضواحي العاصمة حفرت وملأت الحفر أساساتً لعمارات كثيرة، وبدأت البيوت في وسط المدينة تفيض بساكنيها
كنت قد بدأت العمل في المؤسسة منذ عامين من ذلك التاريخ. كان علينا أن نتزوج، حالة أمها الصحيّة، شكوكها بعد آخر مرة نمنا فيها معًا، وعائلتي الغاضبة من تصرفاتي كان يجب عليّ إسكاتها، ليلة صاخبة في قاعة بسيدي فرج، ورحلة لتونس لأسبوعين. ثم العودة إلى شقة أمّها بالمرادية، هي لمكتب الدراسات وأنا لمكتبي البارد وأثاثه المفرط في بساطته. وعندما قتل بوضياف في عنّابة كنت أكمل مراجعة أصل التفاوت بين الناس لروسو.
شهور من القراءات والمراجعات لكتب من عصر النهضة العربيةوعصر التنوير الأوروبي، بعضها تجعلني بلاغته أشعر بالعطش، فأقصد رويبة لشرب بيرة باردة خاصةً في الصيف، يومها كانت البارات مفتوحة. أضع محفظتي على الطاولة، جلدية سوداء كانت لوالدي الموظف في وزارة التجارة لأزيد من عقدين، تركها لي وسيارته الرونو 4 البيضاء. قال لي: ما تخدمش ف الصحافةالبلاد ماراهيش مليحة وأنت راسك يابسنهار الأحد نروحو عند عمك عومار نشوفو كيفاش يعاوننا. عمي عومار هو من أدخلني هنا. لم يكن متاحاً لي الرفض، بقاؤها بجانبي بعد أربع سنوات من الاضطراب شيء لم أكن أنتظره، كانت قد بدأت تعمل مباشرة بعد تخرجها. فيما بقيت متنقلاً من صحيفة لأخرى، أكتب باسم مستعار أغلب الوقت أو لا يظهر اسم حتى. كنت قد بدأت أستعمل محفظة والدي، وأتنقل من مكان لآخر أضع فيها ملفا كرتونيا به مقالاتي المنشورة وآخر تلك التي ستنشر أو لا؟ النقود كانت قليلة في الصحافة، تأتي وتروح، لا تملأ الجيب وكل ما تكلمنا فيه من قبل شمس تغيب ببطء. كانت تراقب بصمت قلق والأصحاب قد تفرقوا بين الجزائر وأوروبا، لكنها لم تتكلم، رغم أني كنت أعرف أنها ملّت وكانت ستنفجر. ربما كان عملي في تلك المؤسسة أفضل شيء يمكن أن يحدث لي، رغم ذلك
محفظته تلك رافقته منذ أن بدأ العمل في ولاية الجزائر كسكرتير، حتى تقاعده. لم يأخذ فيها يوما أوراقا أو ملفات، فقط سندويتشات، سجائر زيادة وملابس داخلية تحسباً لأمر طارئ
*
في ذلك الصباح الشتوي كنت قد خرجت من دون أن أشرب قهوتي. الرونو 4 على الطريق السريع لا تصدر صوتا كما تصدره وسط الزحام. الطريق شبه خالية من الجهتين. كم كان عدد السيّارات في الجزائر وقتها؟ عندما وصلت للمنطقة الصناعية بدأت تمطر، وما أن دخلت مكتبي أحمل محفظتي وكوب قهوة، كانت النافذة الكبيرة الواطئة قد غسلت من الخارج وصارت الرؤية عبرها صافية، لكن ليس قبل أن تتوقف الأمطار. كان هنالك ظرف كبير. مخطوط كتاب لقاص تونسي لم أسمع به من قبل: علي الدوعاجي. وكنت أنتظر رسالة من أستاذ جامعي تونسي، كان سيكتب المقدمة، مقدمة الأعمال الكاملة. كانت مقدمته قد وصلت عبر البريد، عليها اسمه ورقم صندوق بريد جامعة منوبة، تونس. لم تعجبني لغته… ولا تقديمه، عدا ربما كلامه عن فترة الثلاثينات والحراك الثقافي وقتها. الكاتب كان بسيطاً في لغته وحكاياته التي تصوّر ذلك العصر، لكن المقدّمة كانت تصلحُ لمخطوط غامض لإخوان الصفا
فكّرت أن أغيّر في المقدمة، على كل حال هو لن يصله الكتاب إلا بعد سنين وربما لن يصل، ولن يهمه أن يردّ على تحريف في مقدمته. وضعت رسالته أمامي ووضعت الآلة الكاتبة وبها ورقة لأبدأ، لكني توقفت، كانت ورقته بيضاء ناعمة والحبر أسود وغير متقطع، بقيت لمدة أضحك بتقطع من أنفي، وحيداً أمام ورقتين واحدة بيضاء ناعمة والأخرى صفراء وخشنة. أمام النافذة كنت أتأمل الطريق الضيق المار من أمام المؤسسة أو الشركة كما يسميها العمال، كان بابي مغلقاً، كما هو دائماً، اكتشفت أشياء تستحق القراءة، على كل كان ذلك أفضل من اللّف من مكتب لمكتب لنقل أخبار من العمال عن توغّل أشخاص من حزبي الفيس أو الباكس وسط المنطقة الصناعية، كانت تحدث أشياء متعبة ومملةومرعبة، اضرابات وتهديدات، وكان يبدو أن عمّال SONACOM يشاركون في صنع السيّاسة، كان يبدو
كنت أفكّر فيها، يداها الطويلتان، الجلد الرقيق الذي يظهر عليه زغب خفيف لا يُرى إلا بعين المحبّة، عروق يدها الرقيقة البارزة على الذراع بروزاً خفيفاً وأصابعها الأرّق، يداي في جيبي، أتنفس بعمق متخيلا ظهري العاري تحت تلك الأصابع، وصوتها ريلاااكس، أشرب ماءا باردا قليلا وأفكّر في أن البلاد بحاجة لـ: ماساج
جمعت أوراقي داخل المحفظة وقررت أن أكتب المقدّمة على ظهر مقدمته المزعومة، حتى أوراق المطبعة كانت سيئة رغم بياضها.
*
كانت في الصالون المعتّم، تشاهد قناة TF1 متمددة على الأريكة، برامج كثيرة وأفلام جديدة للنويل، وثلوج أبيض من الورقة التونسية. لم يكن هناك ثلج، فقط أمطار وريح باردة. جلست عند قدميها أمسدّهما، باردتان كالعادة وناعمتان، قبل أن أتمدد بجنبها في وضع غير مريح. كقطٍ لا يترك صاحبه، كنت أريد أن تدخل أصابعها في شعري، كان هنالك خيط نمل ينتظر أصابعها ليدب فوق رقبتي ويسرب لي شعوراً بالارتياح لكنها لم تفعل. التصقت بها أكثر، حتى قبّلتني وانسحبت بهدوء. نزعت حذائي، ونمت على وجهي.
تك..تك..تك، تشششششصوت الساعة القديمة ورشّاش الماء الذي يضرب النوافذ والصالون يغرق في الظلام. نهضت بتثاقل نحو المطبخ، كانت الساعة الثانية صباحاً، وكان يوم الغد جمعةويكند! صنعت قهوة وعدت إلى الصالون حتى لا أوقظها وأمها الغافية. أشعلت أباجورة صغيرة، وبقيت أنظر إلى الرف الذي ملأته بكتب من المؤسسة، أغلبها لم تطرح في المكتبات العامة والمدارس والأسواق، لا زالت في المستودعات، تنتظر بين إضراب وآخر، ثم من كان له الوقت ليقرأأخرجت الأوراق من المحفظة وفكّرت في المقدمة التي سأكتبها، ربما أخلق له حياة جديدة، لكن ماذا كنت أعرف عن تونس الثلاثيناتفكرت في أن أكتب عنها مستعيناً بمعرفتي في زياراتي مع عائلتي، لكنه لم يكن كافياً، كانت كئيبة ومعزولة لما زرتها بعد زواجي. لم تكن معزولة مثلنا، عزلتنا كانت قاتلة، لم يرض الصحفيون يومها أن يكلموني عندما قدّمت نفسي كصحفي، رفضوا مناقشتي في أمور البلاد ونحن في المقهى. خرجوا. لم يعجبها الحال، أخذت تسبّ، جامعةً رجال الأمن الذين أوقفونا في الطريق عشرات المرّات ليتأكدّوا من جوازات السّفر. لم أكن أعرف الكثير عن تونس، ولا عن الوسط الذي أتى منه الدوعاجي. استمتعت بالقهوة وفكرة النوم حتى ساعة متأخرة، لم تؤثر في القهوة يوماً. أشربها وأنام كأنّها حليب.
*
كانت تعمل على طاولة الرسم في الصالون، عندما استيقظت، طوّقت حزامها والتصقت بها من الخلف فابتسمت. أول مرّة دخلتها كانت على طاولة رسم في مكتب الدراسات الذي تعمل به، تمسّكت بالطاولة ثم استندت عليها فكسرتها، أكملنا على المكتب، كان كبيراً يشبه مكتبي، بأدرج كبيرة وأرجل معدنية وسطح واسعٍ خشبي بارد! كل مكاتب المؤسسات العمومية تتشابهسألتها عن المخطّطات فقالت إنّه مشروع في حي المحمديّة، كانت هي من حكت لي عن العمران الوظيفي وتاريخه، وارتباطه بسياسة معينة، تصنف النّاس داخل الإطار الذي تعرّف به العائلة في قوانينها: أب وأم عاملان، طفلان على الأكثر طبقاً لسياسة تحديد النّسل، داخل شقة صغيرة بعيداً عن العاصمة للحدّ من التضخم، لكنّها قالت أيضاً إنه يجب توفير المواصلات، خاصة القطاراتفي المؤسسة كنت أسمع العمّال يسخرون من تأخر القطارات القديمة وسوء تنظيم الشركة بتسميتها “الشركة الوطنية لانتظار القطارات”. كان المشروع صغيراً، رفض مدير المكتب تمرير مشاريع كثيرة أكبر حجماً، سيقيلونه قالت، لن يطوّل في منصبه. يبيعون مناقصات لمشاريع مجّمدة، لن يبنى شيء لنهاية القرنكانت تقولها بلا مبالاة ولم تكن تعرف أنّها تتنبأ بنهاية القرن الجزائري. هنالك فوضى كبيرة في هذا المجال، وليس هنالك محترفون، فقط محدثو نعمة يشترون كل شيء. سيبنون عمارات لن تصمد أمام الزلازلزلزال؟ لم أكن قد سمعت تلك الكلمة منذ عام 1981، آخر زلزال ضرب الجزائر، منذ 11 عاماً. عام 1992 كان بارداً، وكانت تلبس جوكينغ وخفاً صوفياً، بينما كنت أتابع نشرة الثامنة قبل أن أغيّر القناةومن دون أن توجّه لي الحديث قالت: مابقاتش معيشة هنا، نروح نلعب بالثلج ف بوردو
عندما حكيت لها عن الكتاب والمقدّمة وإعادة كتابتها ضحكت. كانت ترى أنّه انتقام سخيف من الجيران سيئي الضيافة، قلت لها إنّي لم أفكّر في الأمر من هذا الباب، بل فقط لأنّ تثاقفه أزعجني. أنتَ كتبتَكتبتَ، لا تكتب مقدمة، اكتب قصة وضعها بين القصص، ما دمت متأكدّا من أنّكم تطبعون الكتب بلا فائدةثم إن قصة زائدة أو مقدّمة محرفة لن تقتل أحدَاليست بناءَا مغشوشا! لم أستطع أن أؤكد كلامها، لم أكن متأكدَا من براءة الفعل، خاصة أنّ الكاتب ميت
*
تأخّر نشر الكتاب عامًا. عامُ بداية الرعب. في نفس الوقت من فصل الشتاء، ليلة خميس، كنت أقف أمام النافذة أدخن، كانت قد رافقت والدتها إلى فرنسا لقضاء عطلة الميلاد هناك. لم أستطع أن أترك، كنت قد عدت للصحافة باسم مستعار، وكان الوضع يخنقني، خفّ العمل في المؤسسة، ولم نعد نطبع كثيراً، ولا شيء تغيّر في التوزيع. على الرف كنت قد أضفت كتابين للقاضي عبد الجبّار المعتزلي: شرح الأصول الخمسة. أتى بهما من المطبعة ولد جديد، اسمه بشير، كان سعيدًا بقراءاته عن المعتزلة، تركته يتكلم ثم قلت له: لو كان جات النّاس تقرا ولا سامعة بشغلنا رانا طبعناهم؟ سَكَتَ. عدّل نظارته وخرج، لم أشأ أن أقول له إنّ الفئران ستأكل الكُتب في المستودعات. رتّبتُ الرفّ ووضعت الكتب الجديدة جنب كتب صدرت لأول مرّة في بداية القرن! الطّاهر الحدّادقاسم أمينأحمد أمينسلامة موسىفرانز فانونشربت من كوب الشاي الذي كان على الرفّ الأعلى. كانت أغنية الهاشمي قروابي وصلت الى منتصفهاشرع الله قوم أفتح بابكوأنا أتساءل كيف سنعبر القرن؟ رجعت إلى النافذة بالجزء الأول من الإمتاع والمؤانسة، أحب تلك النافذة، واطئة وقاعدتها عريضة، جلست أقلب الصفحات وسرحت في الأسفلت المبلل. كنّا سننشر كتاب الدوعاجي، وكان عليّ أن أردّ الأوراق المحررة والمراجعة يوم السبت صباحاً، أيامها كان السبت أول أيام الأسبوع. تذكّرت الكلام عن المقدمة والقصّة، لكني وجدته مضحكاً، كانت الريح تعوي في الشوارع الخالية، حظر التجوال قضى على كل شيء، شهور من حظر التجوال
خنقني سؤال عبور القرن، فتحت النافذة، لم يكن هنالك برد. أخرجت الأوراق ووضعتها على الطاولة، لكنّي لم أعرف ماذا يمكن أن أكتب.
قررتُ أن أخرج.
خطوة خارج العمارة ونار تشتعل في بطني. أشعلت سيجارة بلا فائدة. وقفت أمام المدخل أدخن، أراقب الشارع، سمعت أن أناساً قد اعتقلوا أو قتلوا عندما خرجوا في الليل، يوم أصيبت أمها بأزمة في منتصف الليل اضطررنا للاتصال بالشرطة وانتظارهم نصف ساعة حتى أخذونا الى المستشفى. ظلّت تسبُّ وتلعن. كان هنالك هلال خلف قطيع الغيم. تقدمت ببطئ في الظلام، حتى الحافّة التي تطلّ على المدينة التي عملت نفسها نائمة. البحر أسود، وأضواء سفن متنائرة هنا وهناك تلمع وتخبو. كان يمكن أن يُفتح باب المجهول في أي لحظة. أي شخص معه سلاح كان يمكن أن يفعل في سوءًا. استدرت لأصعد وأكتب في المقدمة سيرة شخص عاش في هذه المدينة تحت حظر التجوال، لكن العمارة بدت بعيدة

………………………………………………

الفيس: FIS حزب الجبهة الاسلامية للانقاذ، المحظور.
الباكس: PAGS حزب الطليعة الاشتراكي، كان ينشط سرا.
SONACOM: من أهم المؤسسات الوطنية التي أنشأت في العهد الاشتراكي للبلاد، لصناعة الشاحنات والحافلات.

وئام مختار: ريثما تنزل شفتاه إلى بطني، انتظرني حتى أعود

$
0
0
sally_mann_family_pictures_15

Sally Mann, Family Pictures. Source: sallymann.com

(1)
مشغول. ظهره إليّ ورأسه إلى أوراق وأقلام وجرائد قديمة وجرائد جديدة ولابتوب لا ينطفئ وبعض الكتب. مكالمات هاتفيّة لا تنتهي، وسجائر. طبق صغير عليه بقايا حشيش مخلوط بالتبغ، وأنا في آخر الكادر. أمد يدي إلى اللابتوب وأغلقه في وجه الجالس أمامه، يجن ويهتف “لما أكون باعمل حاجة سيبيني في حالي!”
نظرة شريرة ويذهب إلى السجائر، ثم يقرر أن يذهب إلى الحشيش. يجلس أمام طاولته الصغيرة، ويبدأ في فرك بعضه.
أركل الطاولة ببساطة، وتبدأ المعركة.
ربّما في بدايات كهذه أستمتع برؤيته وهو لا يعرف كيف يأخذني في قلب معركة، أقف ساكنةً تماماً، ثم أغمض عيني. يظن أني انتهيت ويقترب. لحظة اقترابه هي اللحظة التي أفتح فيها عيني على اتساعهما، فيجفل ويبتعد مُطلقاً مسبّة وأنا أضحك.
أدير موسيقى خافتة لا أعرف من أبدعها، أقترب منه. جالس على الكنبة يدخن سيجارته بشوقِ يغلب شوقهُ لي في هذه اللحظة. أجلسُ على الأرض بالقربِ من قدميه، ونتبادل نظرات طويلة على شفاهٍ ترتعش، أمدُ أطرافَ أصابعي أتحسس طريقي في ساقه، ثم ركبته. لأعلى قليلاً. فيمسك هو بيدي، ويجذبني ناحيته بقسوة يجيد تبريرها بعد ذلك. يعبث بجسدي بغضبٍ مكتوم. أفتح عيني وأبعد يديه عن دهاليز روحي. أنام عليه كأنه الباقي من الذكرى، أهمس في أذنه: “ماتخافش، سيبلي نفسَك خالص”. يضحك، أحسُّ بجسده ينبسط من تحتي كأنه شراع مركب، وأحسُّه موج بحرٍ يهدهدني. أقترب بوجهي من وجهه، أستنشق رائحة نَفَسُه. أموت.
أقبّلُ كل جزءٍ من وجهه يتأتّى لي، وأقبّل زاوية فمه اليسرى التي أعشقها. وعندما بدأت في امتصاصها على مهل، كانت يدي تشق طريقها إلى أسفله، وأصابعه قد وجدت طريقها في أعماقي.
أمد يدي أمسك بالقميص،كل زر بقبلةٍ على صدره. ببطء، بهدوء. يمل، يتمرد، يخلعه في لحظة ويمد يده يقيد كفيّ وراء ظهري، يهمس لي وهو يقبل ما وراء أذني بما يريد أن يفعله حالاً، أترك جسدي ليلتصق بجسده كله. أدوخ، فيشّد وثاقي. أدفعه بجسدي وأهرب منه إلي الخارج، أفتح الباب وأجلسُ علي السلًّم، يلحق بي ماشياً مشيته المميزة، يقف علي الباب، يُدخلني داخله بنظرة! أقف بمواجهته أحاول التوازن. أقول “ممكن أعدّى؟” يسد الباب إلا من ضمّة ذراعيه، يحتضنّي ويرفعني، يدفعني بعنفٍ خفيفٍ علي السرير. هو يعرف كيف يحتضني كأني لن أعود لنفسي بدونه أبداً. يقبلني مرةً أخرى، يعيد تشكيل الشفاه كما يُريد. يعبث بلسانِهِ داخل فمي، لا يترك موضعاً إلا ويطرقه بلسانه، يرويني بريقه. أتوه.
يمد يدهُ ببطء يخلع قميصي، يخلع عني السنين. يمرر يدهُ على جسدي كله، ثم يعيد التأكيد على صدري. يعصره، ثم يتشبث به ريثما تنزل شفتاه إلى بطني مباشرة. لم أعد هنا، انتظرني حتّى أعود…
يضغط بجسده علي. يضغط. وأنا لا أريد أن نعود اثنين. تلتقي شفاهنا فنتبارى في القُبل لأننا لن نعيش غداً. يمسك بيدي الاثنتين إلى أعلى وأحتضنه بساقيّ، نمتزج ونذهب مع إيقاعٍ واحد. تنسانا الموسيقى ونعيد خلقها الآن. أهمس باسمه فيناديني باسمي، ويزداد الإيقاع توحشاً. أصرخ باسمه فتعلو الموسيقى، ونهتز كأن الأرض تُخلق هنا والآن. نتنفّس عالياً، وتعود شفاهنا إلى نفسها. يقول وهو مُمسكٌ بيديّ: “بصّيلي”. أنظر في عينيه، ونقفز سوياً من أعلى الجبل.
.
(2)
تقول: عايزة أرقصلك، تختار المزّيكا؟ يُفكّر. يستمتع بالتفكير، وهي تتركه قليلاً. وهو يفكّر دائماً ما تنزلق يده على ركبتيها. تحتار قليلاً، ثم تختار ركبة واحدة، غالباً اليُسرى. ثم تصعد لأعلى قليلاً… رويداً، أصابعه تزحف قليلاً أعلى الركبة. هي تهمهم، وتمّد يدها إلى شَعرِه. أرقصلك؟ كان يحتضنها منذ قليل، لكنه الآن يستند برأسه إلى الحافّة ويتركها معلقةً على شفا الهاوية. يده اليُسرى تبحث عن معنى آخر للمسافة التي بين رقبتها وكتفها. يضغط على شامةٍ، ويقترب ليراها جيداً. نفَسُه يحرق الطريق إلى البيت، يلغي فكرة العودة ويمنع النظَر إلى الوراء. أرقصلك؟ صوتها يتشكّل مع أصابع يده اليُمنى. صوتها يصعد إلى أعلى، إلى منتصف فخذها، ويدور مع قبضة يده.  ينسحب مع انسحاب أصابعه فجأة إلى الركبة، يهبط إلى الجوف. تتكلّم من داخل فوّهة البُركان. أرقصلك؟ يشدّها أقرب فتتحرّك قليلاً لتقترب من ساقيه. يعبث. يفكّر ويعبث، وتعود جنوده إلى منتصف ساقيها تضمّها، فتهرع يده اليُسرى للمساعدة. يدور حول فخذيها بكِلتا يديه، يجعلها تفتح الطريق. يتسلّق إلى الأعلى متلمساً كُل مسامَة وضاغطاً بإصبعه الأوسط على كل شامة. تكاد تصرخ: أرقصلك؟ صوتها يناديه وقلبها يخلق إيقاعاً، وهي تريد أن ترقص له، وأن تبتعد عن يديه. تريد أن تبتعد عن يديه لكنها تريده أن يقترب أكثر. صوتها يتهدّج وأصابعه تداعب البوابات باطمئنان المنتصر، وقوّاته تستعد للدخول. يبتسم لعينيها المغلقتين، ويهمس في أذنها: أختار المزّيكا؟ فتتردد الحروف بينهما في بطء من لا ينتظر الإجابة.

تغريد عطاالله: نصان

$
0
0
David Alan Harvey. Lapa, Rio de Janeiro. 2015. Source: magnumphotos.com

David Alan Harvey. Lapa, Rio de Janeiro. 2015. Source: magnumphotos.com

(١)
في المطعم تجلس مقابل صديقها. فجأة، حرارة شديدة تستعر في جسدها. تخبره في التو إنها تشعر أنّ لديه شهوة كبيرة، وإنّه يجب أن يتخلص منها. تنصحه بالتوضؤ ثم تستأذن في الذهاب إلى الحمام. هناك تبدأ بالاغتسال، وشيئًا فشيئًا تبدأ بنزع ملابسها. قطعة قطعة. تريد التخلص من تلك الحرارة الشديدة التي تنبعث من جسدها، وكأنّ الماء يمكنه إطفاء ما تشعر به داخلها. لوقت طويل تستمر في الاغتسال، دون وعي منها تحتل الحمّام النسائي للمطعم، الجارسونات في الخارج يستمعون لصوت اندلاق المياه في الحمّام… حتى يبدأ الجميع يطالبونها بصوت مرتفع بالخروج وقد مرت ساعة من الوقت. تخرج من الحمّام، وبكامل برائتها تطلب أكياسًا لملابسها الداخلية المبللة.
(٢)
“سأسند نفسي بنفسي وأمضي.” جملة دوّنتها صديقة كاسم لها على الواتساب. أردد هذه الجملة على مدار الوقت. وعندما يحدث، أستعيد وجه نرمين، تلك الصديقة، وسط مساحة بيضاء. أقول لنفسي إنّها قوية كفاية لتكتب ذلك. أشعر بالغيرة والإحباط؟ غضبي وحنقي على العالم… بسرعة البرق تحضر ملامح نرمين، تقص بيدين حازمتين قماش بنّي وتأخذ في سرد حكايته: من أين اشترته وكيف هي فخورة بشرائه بثمن جيّد، كيف أنّ مهارتها زادت شيئًا فشيئًا وهي تتفوق على نفسها يومًا بعد يوم. تحكي التفاصيل بنبرة هادئة، وكأنّها تتحدث عن هواء البحر ذات فجر صيفي. تلك اللحظات كنت أراقبها فعلًا. تمنيت لو أنّها تستمر بالحديث بتلك القوة، فهي تبدو لي وكأنّها ملهمة. فجأة قطعت رصانتها العجيبة وقالت بنبرة مشدودة، محركة جذعها نحوي: يوما ما سيقولون إنّ نيرمين جاهدت كثيرًا لتكون على ما هي عليه. كانت التنهيدة الخافتة مسموعة أكثر من جملة التحدّي تلك. سمعتها بوضوح شديد وكأنّها تتهجأ. كما لو كان في دواخلها نهم لزاد روحها العطشى لأشياء لم توشوشني إيّاها رغم كل شيء.


علي لطيف: لوسي في السماء مع الألماس

$
0
0
PAR13856

Guy Le Querrec. In a flat of the 16th arrondissement. Actress: Claudine Beccarie. Thursday 26th September, 1975. Source: magnumphotos.com

كنت جالساً على كرسي غير مريح أمام بار خشبي في حانة غير مكتظة وغير معروفة في القاهرة. بجانب كأس بيرتي متوسطة السعر فوق البار الخشبي رقم، وفوقه كُتِب بقلم أسود: «من يريد أن يقضي وقتاً ممتعاً، ليتصل بي، أنا أحب كل أنواع الرجال ويحبني كل أنواع الرجال، قبلاتي وأحضاني الحارة، اللاذعة جداً.»
قال لي عامل البار عندما سألته عن الرقم، أن صاحبة الرقم أبشع فتاة بين فتيات الحانات وتسرق الأجانب المشتهين الثمالى. كان بشعاً هو الأخر.
كان ذلك في هذا الزمن، زمن الكآبة المرَضية والجمال المنقرض والبحث عن الروح الضائعة والهيجان الموسمي للحروب المتزامنة مع عولمة الإيروتيكا المادية «البورنو»، ثم قابلته. كان رجلاً حزيناً للغاية. حزنه لم يكن معتاداً. قال لي أن حزنه قد وُلد معه.
«بدأ ذلك في هوليوود،» قال لي. وصل إليها قبل ثلاث سنوات من اليوم. عمل في شركة أفلام إباحية كمترجم من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية. كانت تلك بداياته. أول فيلم قام بترجمته كان: قضيبان وامرأة قصيرة.
شركة الأفلام هذه كانت مختلفة تماماً عن كل الشركات المنافسة لها، فقد كانت تُترجم كل الحوارات في الأفلام الإباحية إلى اللغة العربية. لقد اكتشفت كريستينا اكس – فنانة إباحية متقاعدة ومنتجة وكاتبة سيناريوات ومالكة شركة كي اكس كي –  مدى أهمية الأفلام الإباحية للمستهلك في الدول العربية، واستطاعت خلال ستة أشهر فقط منذ أن بدأت في ترجمة كل الأفلام الإباحية لشركتها للغة العربية أن تكون الموقع الإباحي رقم واحد في الدول العربية بالرغم من رقابة الدولة البوليسية والثيوقراطية على الانترنت وبطئه والحملة الدينية الشرسة على مشاهدي ومشاهدات الأفلام الإباحية في هذه الدول.
كيف تحصل الرجل الحزين جداً على هذا العمل؟ لا أعرف تماماً ولا هو يتذكر جيداً كيف تحصل عليه. لكنه يتذكر أنه كان في حانة صغيرة في جادة العرب في شرق لوس أنجلس عندما دخلت كريستينا اكس.
كانت أجمل امرأة رآها في حياتها، أجمل نهدين وأجمل مؤخرة وأجمل ساقين. انتصب قضيبه عندما رآها للحظات ثم نام مجدداً بعد أن أفرغ كأس ويسكي الريد لايبل الرخيص الممزوج بالماء أمامه دفعة واحدة.
جلست كريستينا في المقعد الثالث على يمينه على البار، طلبت كأس كوكتيل ونظرت إليه. لا يتذكر ماذا حدث بعدها، لكنه في اليوم التالي وجدَ نفسه أمام مبنى أبيض متوسط الحجم عليه لافتة مضيئة مبتذلة كتب عليها شركة كي اكس كي.
دخل الرجل الحزين جداً إلى المبنى. وجدَ عدة بوسترات لأفلام إباحية على الحائط أمامه. سار إلى مكتب الاستقبال.
«لدي موعد، أنا…» قال للمرأة التي اكتشف أنها رجل بالطريقة الصعبة بعد عدة أسابيع.
«أنت العربي؟» سألته.
«ماذا؟» قال.
«أنت العربي، أليس كذلك؟ حسناً، السيدة كريستينا في انتظارك. المكتب الرابع في نهاية الممر على يدك اليمنى،» قالت له، «أسرع، أنت متأخر 20 دقيقة على الموعد!»
سار الرجل الحزين جداً في الممر ووصل إلى المكتب الرابع على يده اليمنى وطرق الباب. فُتح الباب وظهرت فتاة صغيرة تبلغ من العمر حوالي العشرة سنوات.
«ادخل، ادخل،» قالت له، «أمي تتحدث على الهاتف فقط،» ثم خرجت الفتاة الصغيرة من المكتب.
دخل الرجل الحزين جداً ووجد السيدة كريستينا جالسة على مكتبها وساقاها الجميلتان ممدوتان على المكتب وتتحدث على الهاتف. كانت ترتدي بدلة سوداء ضيقة ونهداها على وشك القفز من قميصها الأبيض الضيق شبه الشفاف. «لحظة،» أشارت له بإصبعها.
«حسناً، حسناً، قُل لجيمس دين أن هذا عرضي الأخير وليذهب إلى الجحيم إن رفض، سنجد شخصاً آخر!» ثم أقفلت الخط.
«أعتذر منك،» قالت، «كنت في انتظارك، لماذا تأخرت؟ هل هكذا تبدأ يومك الأول في العمل؟ اجلس، هيا، اجلس بسرعة. لنبدأ في الحديث عن الأمور المهمة، سأعطيك 900 دولار على ترجمة كل فيلم، وإن حقق الفيلم نسبة مشاهدات كبيرة وبِيعَ على شبكة الانترنت سأعطيك 900 دولار أخرى، ما رأيك؟ وهذا بالطبع العرض المبدئي لأول ثلاثة أشهر. إنه عرض جميل، أليس كذلك؟ لن تتحصل على أي عرض أفضل!»
«يا لها من امرأة!» فكر في نفسه.
«هل أكلت القطة لسانك يا أسامة؟» سخرت منه.
«اوه، آسف، آسف يا سيدتي. لكنني لا أفهم، ماذا حدث؟ ما الذي أفعله هنا؟ ما الذي حدث الليلة الماضية؟»
«ألا تتذكر شيئاً؟ اللعنة على الشراب،» قالت له، «لقد سهرنا مع بعض ليلة أمس وفعلناها في حمام الحانة، ثم مجدداً في سيارتي. لستَ بارعاً كثيراً وشيؤك صغير بعض الشيء، لكن كل ذلك حدث بعد أن وافقت على طلبي للعمل عندي وأنا وافقت على شروطك عندما فعلناها في الحمام والسيارة، ألا تتذكر أي شيء من هذا؟ »
«لا، لا أتذكر شيئاً، أنتِ متأكدة أن هذا ما حدث؟» قال لها.
«أيها الأحمق، شعر عانتك يشهد على ذلك، أتقول أنني كاذبة؟» ضربت المكتب بقبضتها ووقفت وسارت إليه بخطوات واثقة، وقفت أمامه ورفعت تنورتها. لم تكن ترتدي أي سروال داخلي. «أتتذكر ماذا وضعت هنا؟» قالت له.
لم يتذكر الرجل الحزين جداً ما حدث الليلة السابقة. لكن فرجها كان رائعاً، هذا ما فكر فيه تلك اللحظة. في النهاية وافق الرجل الحزين جداً على العمل. ولم تكن تلك آخر مرة يفعلانها. ومع مرور الوقت أصبح يدها اليمنى في العمل، وأحد كُتاب سيناريوات الأفلام الرئيسيين ورئيس فريق الترجمة. وقد أنتج لوحده فيلميّن: العربية والأشقر، الذي حقق نسبة مشاهدات كبيرة في أمريكا، وسجن أبو قضيب، وهذا الفيلم حقق نجاحاً أيضاً لكن ليس نجاحاً مميزاً في الدول العربية.
بعد مرور سنتين من عمله في شركة كي اكس كي استطعتُ عمل مقابلة مع الرجل الحزين جداً بمحض الصدفة في تلك الحانة الصغيرة بشارع الهرم في القاهرة. استمرت المقابلة للفجر، وسألته فيها واحدًا وعشرين سؤالاً وهذا نص المقابلة:

 المقابلة*
*ملاحظة: طلب مني الرجل الحزين جداً التكتم على هويته وكذلك الأسئلة، لذلك سيتم إظهار أجوبته فقط.
السؤال الأول:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
أنا حقاً لا أعلم بالضبط، لكنني لم أنضم إلى منظمة الظلال لأنني مؤمن أن البشر يستحقون فرصة ثانية، بالإضافة لأنني لا أستطيع النوم في الظلمات.
السؤال الثاني:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
مسألة حجم القضيب لا تُنقص من مكانة الرجل كرجل، المهارة هي في استخدامه، الوضعية المناسبة، التواصل النفساني والروحي مع المرأة قبل كل شيء، وبالنسبة لي، فأنا لم أستعمل أي منشط في حياتي، وبالطبع لديّ “كرايتيريا – Criteria” معينة، ذوقي محدود بعض الشيء، بجانب أنني لا أحب النساء طويلات القامة كثيراً، إنهن لا يتحدثن كثيراً ودائماً عصبيات.
السؤال الثالث:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
الكثير لا يعرف ذلك، وقد تسربّت عدة إشاعات في الشركة أنني وكريستينا نحب بعضنا البعض وأننا سنتزوج قريباً، لكن هذا غير صحيح، فأنا لا أؤمن بمؤسسة الزواج ولقد كنت مخطوباً لابنة خالتي ذات يوم. أنت تعرف كيف يجري الأمر في مجتمعاتنا، لكنني فسخت الخطوبة لأنها لم تود أن…
السؤال الرابع:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
 لا أريد الإجابة على هذا السؤال لأنها في النهاية ابنة خالتي ولا أستطيع المساس بشرفها.
السؤال الخامس:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
نيتشه يعتقد حقاً أنه فهم الأمر، لكن لنكن صريحين، الرجل في النهاية حضن حصاناً وبدأ يصرخ “سامحيني يا أمي!”  في آخر أيامه، هل هذا مظهر رجل فهم الأمر؟ بالطبع لا. دون التطرق لأن فلسفته مهّدت لصعود أكثر الحركات السياسية تطرفاً في التاريخ الحديث، أعني كل تلك النساء الجميلات اللاتي كن ربما سيصبحن أمهات أو نجمات إباحيات أو أي شيء في المستقبل تم إبادتهن لأن الرجل القصير هذا، ادولف هتلر، لديه مشاكل مع حجم قضيبه. ونيتشه السبب. أما أخته فهي امرأة حقيرة ببساطة، لقد بحثت عن الموضوع وقرأت في كتاب نسيت اسمه أن عصا المشي الخاصة بنيتشه أعطتها أخته كهدية للرجل القصير ادولف، وأنا متأكد تماماً أنها كانت تستعملها كديلدو، أو أنها فكرت بذلك ذات مرة، فأنت تعرف الشائعة التي تقول أن نيتشه كان واقعاً في حب أخته والعكس صحيح. لكن كل تلك نظريات، أنا مؤمن أن كل امرأة تفكر بفكرتين عندما ترى عصا طويلة، إما تضعها في داخلها أو تمسكها في يدها  كقضيب لتشعر أنها المسيطرة والمهيمنة على الرجل. طبعاً هذا يحدث فقط إن كانت المرأة في المزاج المناسب للجنس، وقد ثبت علمياً أن المرأة تفكر بالجنس عشرات المرات في اليوم. لقد قرأت ذلك وتناقشت في الأمر مع كريستينا ذات مرة. هل تصدق أنها قالت لي إنها لا تفكر بالجنس أكثر من مرتين في اليوم؟ لأنها كما تقول تحصلت على ما يكفيها من الجنس عندما كانت تعمل كممثلة إباحية من سن الثامنة عشر، ولا يمكن نسيان نظريات السيد فرويد عن المسألة أيضاً. أنت ملم بفرويد، أليس كذلك؟
(«أجل، أجل، أريد كأساً مزدوجة من جاك دانييلز، الأمريكي المستورد وليس الويسكي المعبأ في المصانع المصرية لو سمحت،» قال الرجل الحزين جداً للنادل.)

 

السؤال السادس :  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
لا، لن ينجح العرب في فعل أي شيء مشابه لذلك. أنا قمت بدراسة مكثفة عن الفيديوات الإباحية العربية للهواة، لا يوجد أي إغراء في أغلب الفيديوات، لا توجد حماسة. إنهم يتعاملون مع الجنس مثل الحيوانات، وفي كل الفيديوات، الرجل هو الشخص الأبرز وليس المرأة، ويمكنك أن تلاحظ في الفن الإباحي الغربي أن حقوق المرأة مكفولة، أعني هي النجم وليس الرجل، كل الرجال يملكون قضيباً، لكن قلة منهم فقط يمتلكون ال guts ليكونوا نجوماً.
(…
وأخيراً وصل الكأس: شكراً لك، ما اسمك يا سيد؟
النادل: أنا اسمي قسيّ.
الرجل الحزين جداً: هذا اسم جميل، هل مثلت في أية أفلام سابقاً؟
ابتسم النادل: لا.
الرجل الحزين جداً: إن كنت تريد التمثيل في أية أفلام راسلني على بريدي الإلكتروني، تفضل بطاقتي وراسلني هذه الأيام بعد أن تفكر في الأمر.
النادل: شكراً لك يا سيدي، هل تريدان أي شيء آخر؟
الرجل الحزين جداً:  أحضر لنا الزجاجة كاملة، لو سمحت، هذه الليلة ستكون طويلة
…)
السؤال السابع:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
أتعلم لماذا أجلس معك هذه اللحظة، لأنني رأيت فيك شيئاً مغايراً عن الآخرين في الحانة وخاصة بعد أن علمت أنك كاتب غير محظوظ من بلد يعيش أسوأ أيامه. لقد ذكرتني بنفسي بطريقة ما. على أية حال، بلدي القديم تغيّر، أو بالأحرى لم يتغيّر، ظهر على حقيقته. وهذه هي الإباحية الحقيقية، الحقيقة هي الإباحية، والإباحية هي مجرد تجل عام وانعكاس للغريزة البشرية بشكل فني. لا يتعلق الأمر كله بالنشوة الجسدية، هناك شيء أسمى من ذلك: النشوة الروحية، وهذه تنال منك جيداً عندما تشاهد فناً يمثل الحركة الاستهلاكية البشرية بأكثر صورها راديكالية، أي مثلاً امرأة عارمة الصدر وكبيرة المؤخرة تُضَاجَع من قبل ثلاث رجال لمدة 55 دقيقة، وتتأوه كذباً لإثارة المشاهدين من مختلف الأعمار. بالطبع هذا شيء يثير التقزز لأنني أعتقد حقاً أن الجنس الحقيقي هو انعكاس للحب، لكن السوق الإقتصادية هذه الأيام لم تعد تهتم بالروح أكثر من المادة، وهذا يثير فيك القرف إن كانت روحك مازالت سليمة التكوين، فتشعر بالنشوة الروحية كونك شعرت بالقرف. وإن لم تشعر بذلك، فأنت ببساطة كما يضعها ماركس تحولت لمادة تُدار وتستهلك ويُعاد إدارتها من أجل الكسب، أي أنك أصبحت مادة وانتهى أمرك كإنسان.
السؤال الثامن:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
بالطبع لا، الأمر لا يتعلق بحب عملي أو لا، هذا أمر منافٍ للمنهج البراغماتي الذي أنتهجه في حياتي وتعلمته في أمريكا، أينما يقع المال يجب أن يوجد الرجل، وإن لم توجد هناك سينال منك الرجل الذي أخذ مكانك، تُصبح مستهلكًا آخر في كومة المستهلكين الهائلة المتزايدة حجماً كل يوم.
السؤال التاسع:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
أنا ابن وحيد بين ثلاث فتيات. ماتت أختي الصغيرة وأنا في سن العاشرة بالدرن الرئوي، تركنا والدي ليتزوج بامرأة أصغر وأنا في سن الحادية عشرة، فعملت أختي كمرافقة للباشاوات الأوغاد هي وأمي. أما أختى الثانية فكانت معلمة لغة عربية وصاحبة رؤية، ولقد علمتني الكثير، الله يرحمها.
السؤال العاشر:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
لا أريد الإجابة على هذا السؤال، لأنه أمر شخصي جداً ولا أفكر فيه حتى مع نفسي.
السؤال الحادي عشر:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
حاولت فعلها أكثر من مرة لكنني أريد أن أكون أباً يوماً ما. وهذا مضحك حقاً، فأتذكر أنني قد قابلت هيو هيفنر في إحدى الحفلات الخاصة في منزل كريستينا. لم يصدق أنني من هنا، الرجل يحب العربيات كثيراً، وقال لي نكتة في نهاية الليلة:
لا يجب أبداً وأبداً أن تمشي العربية عارية في الشارع، قل لماذا؟
لا أعرف.
لأنها إن فعلت ذلك، ستحمل وتنجب ديكتاتوراً!
هيو هيفنر ذاك شخص مضحك جداً، أتعلم أن الرجل كله معرفة ويتمنى الخير للإنسانية جمعاء؟ وإن كان ذلك بطريقته الخاصة التي أختلف فيها معه نوعاً ما. كم كان يود أن يزور القاهرة في يومٍ ما، بالفعل أتمنى أن يفعل.
السؤال الثاني عشر:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
أنا حزين جداً لأن الرجل الذي يحب امرأة لا يستطيع أن يكون معها، هذا معنى الحب بالنسبة لي: إن استطاع الرجل أن يكون مع امرأة، فهذا يعني أنها ببساطة ليست المختارة، بل هو يظن أنها المختارة. الحب أمر مستحيل، هذا ما يجعله جميلاً ومغرياً هكذا، لكن لا أحد يريد أن يفهم هذا الشيء. إنهم يحاولون عبثاً.
السؤال الثالث عشر:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
لا، كريستينا أخذت مني المسدس آخر لحظة.
السؤال الرابع عشر:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
لا أعرف بالتحديد، ربما لأنها تحتاجني في الشركة. ابنتها الصغيرة لوسي تحبني حقاً، تقول لي يا عمي. هذا شيء جميل أليس كذلك؟ وإن شاء القدر ولم أستطع لقاء امرأة جيدة أستطيع انجاب أطفال جيدين معها، بالطبع أنت تعرف وجهة نظري عن الحب كما أجبتك سابقاً، سأترك كل شيء للوسي. مجموعة العملات النقدية النادرة التي أملك، اسطوانات أم كلثوم كلها، وسيارتي المرسيدس بينز  500SL الحمراء موديل عام 1984. لوسي لا تحتاج إلى كل هذا، أعني السيدة كريستينا لديها المال الكافي لضمان مستقبل لوسي، لكن عمها لن يترك الحياة دون أن يعطي شيئًا ما لأجمل فتاة رآها في حياته.
السؤال الخامس عشر:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
الرجل الحزين جداً: هذا سؤال صعب جداً.
(…
أين الزجاجة يا قسيّ؟ نادى الرجل الحزين جداً على النادل.
النادل: حاضر يا سيدي، أنا قادم
…)
قسيّ هذا كسول جداً، هذه مشكلة العمل والرأسمالية في الدول العربية. لن تنجح أبداً لأن العرب كسالى وأرباب العمل طماعون بطريقة مدمرة، أعنى أمريكا أصبحت أمريكا لأن الأمريكي يعمل دون كلل وأرباب العمل طماعون لكن بطريقة بناءة. هذا الفرق، وإن طُرد الأمريكي من عمله ينتحر لأنه أصبح عبء على نفسه أولاً وأحبائه والمجتمع، الرجل بلا عمل كالقضيب الذي لا ينتصب. أما هنا عندما يفقد العربي عمله فإنه يجد نفسه متسكعاً في الشوارع وينتظر الخير من السماء، يا له من أمر ساذج! عليهم أن يفهموا أن العمل الشريف هو السعادة الحقيقية. انظر إليّ، هل أنا سعيد؟ أجل أنا كذلك، لديّ كل شيء وأستطيع الحصول على كل شيء أريده وأنا أتحدث عن الأشياء التي أردتها عندما كنت لا أملك شيئاً، لا عن القصور واليخوت والشهرة. أنا رجل متواضع. بالطبع بالغت في التعبير عندما قلت أنا سعيد، أنا في الحقيقة مكتف، ولكن أليست هذه السعادة؟
(…
النادل: تفضل يا سيدي.
الرجل الحزين جداً: أنت متزوج يا قسيّ؟
النادل: لا، لكنني خاطب يا سيدي وسأتزوج نهاية هذا العام.
الرجل الحزين جداً: مبروك، مبروك، تواصل معي، أستطيع أن أوفر لك فرصة للعيش في أمريكا إن أردت.
غمزَ الرجل الحزين جداً للنادل.
النادل: شكراً يا سيدي، شكراً جزيلاً لك.
الرجل الحزين جداً: حسناً، الآن اذهب من هنا
…)
السؤال السادس عشر:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
اوه، اوه، الشيوعيون، يا لهم من عبيد! ما هذا السؤال؟ هل أنت شيوعي؟ لا تقل لي ذلك، هل تعلم الفرق بين الشيوعي والرأسمالي؟ الذوق. هذا هو الفرق. الشيوعي لا ذوق له، أعني من هو الأحمق الذي يريد أن يجعل كل الناس سواسية؟  الناس لن يكونوا سواسية أبداً، هذا ما يجعل الحياة جميلة، تخيّل مثلاً أن الاتحاد السوفييتي انتصر على أمريكا في الحرب الباردة، ماذا سيكون حال العالم؟ لون أحمر، عمال، وكلام فارغ عن حرية وهمية. أسماؤنا ستكون كلها مثل بعضها: ستالين، فلاديمير، جيفارا… والجمال سيختفي من العالم تدريجياً، وسيتوارث الشيوعيون الحمقي الحكم للأبد! في الرأسمالية، البواب يمكنه أن يكون رئيساً إن سعى لذلك، في الشيوعية البواب ينضم إلى نقابة بوابين ويتحصل على ممسحة جديدة وركلة على مؤخرته من قبل صحفي شيوعي أحمق يضاجع زوجته التي يتغزل فيها في السرير قائلاً: يا ماركسي الصغير!
السؤال السابع عشر:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
ألن تنتهي أسئلتك؟ حسناً، حسناً، أنا في القاهرة لأنني أقوم بإنتاج فيلم إباحي عن مومياء تدعى اخمنانون بيغ نوكرز، تستيقظ من النوم لتجد نفسها لوحدها تبحث عن رمسيس بيغ تينغ، فرعونها وحبيبها، الذي ستجده محفوظاً ومعروضاً في المتحف المصري الكبير، ثم ستتذكر نبوءة قديمة قالتها لها إحدى العرافات: إنها لو كانت تريد أن توقظ رمسيس عليها أن تضاجع عشرة رجال عشوائياً على مدار ثلاثة أيام. وكل من هؤلاء الرجال يملك ميزة مختلفة: الرجل الأول يملك قطة سوداء صغيرة تُدعى بوسي، الرجل الثاني مطلق لأن زوجته لا تتحمله، الرجل الثالث بتول، الرجل الرابع مسجون بتهمة الخيانة العظمى للوطن، الرجل الخامس يتيم تركته والدته المراهقة بجانب القمامة وأنقذه شخص قصير يدعى فاروق ويعمل كجيغلو، والرجل السادس يعمل كنادل يحلم بالذهاب إلى أمريكا وهكذا…
السؤال الثامن عشر:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
لا أستطيع التحدث أكثر عن منظمة الظلال لأن الأمر سري للغاية، لكنني أؤكد لك أن ضربتهم الكبيرة آتية، رازا غول لن يرحم أحداً. أتظن حقاً أن مرض الايدز أو الايبولا ظهرا هكذا؟ لا تكن غبياً مثل الآخرين.
السؤال التاسع عشر:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
لا أدخن، لكنني أتعاطى الLSD بعض الأحيان.
السؤال العشرون:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
إنه يجعلني أرى أشياء ما وراء أشياء، أنا متأكد مثلاً أنني لو رأيتك وأنا تحت ثأثيره سأراك لوناً أصفر، لماذا اللون الأصفر؟ لا أعرف، الحقيقة، لكن منظرك يوحي أن لونك المفضل أصفر. هل أنا محق؟
أنا: لا، لوني المفضل هو البنفسجي.
الرجل الحزين جداً: لديك صديقة؟
أنا: لا، كلهن يرحلن في النهاية.
الرجل الحزين جداً:  اسمع يا رجل، أحياناً هنالك بعض الرجال ليسوا محظوظين مع النساء، ربما أنت واحد منهم، لكن لا بأس. ليس كل شيء امرأة، وليست المرأة كل شيء. أنت تحتاج إلى بعض الوقت لنفسك لإعادة حساباتك، أو بالآحرى لإلغاء حساباتك، لا تقلق يا رجل. العالم قبيح جداً لهذا وجدَ الإنسان الويسكي والعاهرات واليد اليمنى!
السؤال الواحد والعشرون:  . . . . . . . . . . . . . . . . . .؟
هذا السؤال الأخير لأنني يجب أن أعود للفندق، وسأجيبك بصراحة. حزني وُلد معي، لكنني اعتدت على ذلك، عليّ أن أعتاد ذلك. وفي بعض الأحيان أرغب في إنهاء الأمر، لكنني إن فعلت من المرجح جداً أنني لن أكون سعيداً، بجانب أن الموت مثل المضاجعة السيئة: لا أحد يتذكر شيئاً، كل شيء مظلم، حفرة مظلمة، لا نشوة، لا شيء. ومن يحب أن يضاجع في الظلام؟ أيضًا لا أحد أيضاً يحب من يبكي بعد المضاجعة. وعلى كل حال، ألا تعتقد أن هذه الحياة تعبير مجازي عن مضاجعة سيئة؟ وهذا هدفي في الحياة يا صديقي الوحيد في الحانة: توعية الناس أن وجودنا في العالم هو مضاجعة سيئة!هذا هو الهدف الأسمى الذي أعمل من أجله. على أية حال، كم الساعة الآن؟ عليّ أن أبدأ التصوير في الصباح الباكر. كريستينا تلك امرأة صارمة وعصبية، لكنها قديسة. لقد أنقذت رجالاً كثيرين وأنا منهم. أتمنى أن أراك مرة آخرى قريباً. كن بخير ولا تقلق. والحساب خالص، وداعاً.
وداعاً وشكراً، حظاً جيداً يا رجل! قلت له.
لم يرد عليّ، سار نحو الباب، دفع الحساب وخرج مع أول أضواء الفجر الباردة، ولم يلتفت. بعدها لم أره  في تلك الحانة مجدداً.

حوار نضال ممدوح: جريدة القاهرة

$
0
0
Processed with VSCO with h2 preset

By Youssef Rakha

بداية دعنا نتعرف علي مسيرتك الإبداعية منك ولماذا النشر خارج القاهرة؟
انتهيت من أول نص متماسك سنة ١٩٩٣، وأنا في السابعة عشر: سنة مغادرتي القاهرة للدراسة الجامعية. ونشرت أول كتبي وفيه هذا النص، قصة “أزهار الشمس”، سنة ١٩٩٩ في القاهرة. سنة ٢٠٠٥ عدت للكتابة الأدبية بعد انقطاع طويل وكنت أبحث عن ناشر محترم وحرفي، لهذا اتجهت لبيروت. لكن “كتاب الطغرى” – أهم كتبي – أيضا منشور في القاهرة.
أتصور أن عندي موضوعين أو قضيتين أتعامل معهما أو أضطلع بهما في ما أكتب: موضوع اللغة، أو كيف تتداخل السجلات المكتوبة والمحكية للغة العربية لتُنتج نصا حيا وتصبح أداة خلق فعالة وجواز مرور ساري المفعول إلى اللحظة المعاصرة؛ وموضوع الجغرافيا، أو ماذا يعني أننا هنا، في هذه المدينة أو البلد أو البقعة من العالم وفي تلك اللحظة أيضاً، بهذه الشروط… خلاف هاتين القضيتين، أتصور أن الموضوع كله في البحث عن الحقيقة بلا انحيازات ولا سذاجات وادعاءات مستفزة، واكتشاف جماليات تتجاوز المفاهيم المملة عن اللغة والكتابة.
رصدت في كتابك “بيروت شي محل” التحولات التي طالت لبنان نهاية الحرب الأهلية بكثير من التفاصيل التي نقلت للمتلقي صورة ذهنية عن لبنان، من أين يبدأ الخيال وأين ينتهي الواقع في تلك الكتابات؟
في نصوص المدن العربية – وهي صحافة أدبية إن أردت – لم يكن هناك خيال إلا على مستوى الصياغة والتركيب، لم يكن هناك تخييل أو اختلاق وإن ظهر في النص شِعر أو تضمنت التداعيات لعبا بالذاكرة والتاريخ. كان استحضار لهجات الأماكن المكتوب عنها من أهم جوانب العملية الإبداعية. ورغم أنني لم أكن واعيا بذلك، أتصور أنني كنت أتدرب على كتابة “الطغرى”. كانت بيروت وتونس أماكن أنظر منها إلى القاهرة، وكانت كتابتها تدريبا على كتابة القاهرة على نطاق أوسع يتضمن تخييلا واختلاقا. كانت تدريبا على غزل الخطابات المتباينة في نسيج واحد والنفاذ عبر لغة عالم ما إلى عمق ذلك العالم ثم التقاط الملامح الأبرز لشخصية إنسان أو مكان أو علاقة بهدف تعريفها والتعامل معها… وكانت تدريبا على خلق إيقاع سردي حتى إن لم يكن هناك “حدوتة”.
في كتاب الطغري رصدت عوامل التعرية التي تعرضت لها الشخصية المصرية خاصة من هجمة السلفية الوهابية، هل تغيرت تلك الصورة باندلاع ثورة ٢٥ يناير؟
لا أظن أنها تغيرت بقدر ما اتضحت على أكثر من وجه، ظهرت حدود الصورة وخريطة الاحتمالات. أصدقاء خسرناهم، وتطلعات أسقطناها… أصبحت هناك أسماء جديدة لليأس…
في روايتك الأخيرة “باولو” يبدو أنك تواصل ما بدأته في رواية “التماسيح” حتي أنك أستدعيت أحد أبطالها الذي حمل العنوان أسمه. هل يمكننا القول بأنك تؤرخ لجيل كتاب التسعينيات؟
نعم “باولو” هي القسم الثاني من ثلاثية أو ثنائية التماسيح، مازلت لا أعرف إن كنت سأكتب قسما ثالثا. لكنهما تؤرخان للربيع العربي أو – حتى أكون أدق – تؤرخان لتعامل النخب الثقافية والسياسية مع أحداث الربيع العربي… ليس لجيل التسعينات. في القسم الأول، “التماسيح” (دار الساقي، ٢٠١٢)، هناك استحضار لأجواء وسياقات جيل التسعينات بالفعل. هناك أيضا استدراج للقارئ المتلصص حيث يتعمد النص خلط التوثيقي بالمتخيل والإيهام بالوجود الواقعي لأشياء خيالية أو أناس مختلقين. بالطبع “التماسيح” في جانب منها تتكلم عن ظهور قصيدة النثر التسعينية والمناخ المحيط بذلك الظهور، لكن لا أظن أن هذا هو الموضوع.
هل يواجه جيل التسعينيات الأزمات التي طالت كتاب السبعينيات؟ وكيف تعاطى كلا الجيلين مع تلك الأزمات؟
أعتقد أن النخب العربية وإن اختلفت قناعاتها وتصوراتها عن نفسها ظلت تعاني من الأزمات المستعصية ذاتها عبر الأجيال. عانت من تناقض الولاءات والتعلق بالسطلة والعزلة الاجتماعية، وعانت من الالتباس الأخلاقي المترتب على ذلك. لكنها عانت من شيء ربما أخطر هو الوقوع فريسة تصوراتها الجمالية والمثالية عن واقع تصمم على افتراض أن لها موقعا مركزيا فيه أو دورا في تكوينه بينما الحقيقة أنها غير قادرة حتى على رؤيته. وهذا هو ما تعالجه الروايتان كذلك في سياقين مختلفين وإن ارتبطا كلاهما بمفهوم “الثورة”.
أين يقف يوسف رخا بين كتاب جيله؟ وهل عانى من شللية الوسط الثقافي التي أغمطته حقه؟
أعتقد أني كنت على صلة طيبة بأكثر من شلة دون أن أكون عضوا في إحداها حتى ٢٠١١، ولا أعرف ماذا حدث بعد الثورة لكن الشلل بدأت تتشكل من جديد على أسس إن لم تكن سياسية فهي موهومة بالسياسة أو بصواب تشنجاتها السياسية. كانت الشلل تتشكل وتتحجر والحقيقة أنها لم تكن تعبر عن آراء بقدر ما كانت تردد شعارات وتدافع عن ولاءات اجتماعية وشخصية. وخاصة عبر فيسبوك في الشهور التالية على سقوط مبارك، رأيت من أداء هذه الشلل وسمعت من خطاباتها ما أشعرني بالوحدة والغربة واللاجدوى أكثر بكثير من ذي قبل. ولعلني أخطأت في حدة النبرة التي عبرت بها عن نفسي أنا أيضا لكنني كنت أشعر بخذلان حقيقي وللمرة الأولى في عمري لم يكن الخذلان شعورا شخصيا بل كان شيئا يحدث على مستوى القيم، القيم التي ظننت هناك من يشاركني الإيمان بها ثم رأيته يمتهنها ويتحايل عليها بل ويمزقها بيديه.
لا أعتبر أن لي حقا أصلا لكي أقول إن أحدا غمطني حقي، لكن قبل الثورة كنت أشعر أني جزء من شيء ما وأن لي حلفاء في معركة الكتابة والآن لم أعد أشعر بذلك.
قلت أن “باولو” مجاز عن إحباطك الشخصي في الثورة، لكنها تحليل سياسي لها بالمعنى العميق. حدثنا أكثر عن الأمر.
ليست تحليلا سياسيا، هي فقط تتضمن وجهة نظر بطلها في الأحداث التي يتعرض لها السرد. خطأ كبير في تصوري أن يُقرأ عمل روائي كما لو كان مقال رأي، وإن كنت لا أملك على أحد أن أقول له كيف يقرأ نصا أنا سلمته له بنشره. وصحيح أن “باولو” تتضمن رواية كاملة للثورة على كل حال.
باولو هو شخص ونموذج أظنه بديهيا أن يكون منفصلا عن كاتبه – ومقارنة بمصطفى الشوربجي في “الطغرى” أو الفتيس في “التماسيح” لا أعتقد أنه يشبهني وإن تقاطعت آرائنا السياسية – ولكن باولو ربما يمثل وجهة نظر أيضا، أو موقفا. إنه هو الوجه الآخر المسكوت عنه للموقف “الثوري”، الجانب المنفي من حقيقته. فهو عنف وتناقض وشر الثورة، وهو الحقائق المجتمعية القبيحة التي تنكرها أو تتجاهلها الروايات السائدة للأحداث، والتي تركز على الجوانب المثالية والبطولية وتنظر إلى الاحتجاج كقيمة في حد ذاته بلا أي سؤال موضوعي عن نتائجه. باولو هو ذلك السؤال الموضوعي ليس فقط عن نتائج الاحتجاج ولكن عن مكوناته الفكرية والأخلاقية والاجتماعية بلا مكياج…
هل كان الربيع العربي لصالح اليمين المتأسلم؟
لا أعرف لصالح من كان الربيع العربي. ولكن ماذا يعني أن يُتهم شخص مسلم في بلد ذي أغلبية مسلمة بالإسلاموفوبيا مثلاً، إلا أن يكون هناك استيراد بالجملة وبلا وعي لخطابات وممارسات غربية لم يُبذل أي مجهود في استيعابها أو اختبارها؟ ومتى بالضبط أصبح الموقف الثوري التقدمي رأسماليا وثيوقراطيا ومحكوما بأموال وهابية؟ ومتى اقتصرت الحماية الحقوقية على من يسعون لشرعنة انتهاك الحقوق و… و… ثم ماذا يعني أن نتخلص من “الاحتلال الإخواني” حتى نسجن الكتاب بتهمة ازدراء الأديان أو خدش الحياء العام؟
اعتبر المثقفون تصريحات حلمي النمنم الأخيرة والخاصة بانغلاق وتحفظ المجال العام نفسه علي سقف حرية التعبير والإبداع ردة على مواقفه من تلك القضية في الوقت الذي يبدون تحفظهم على ما كتبه ناجي رغم استنكارهم حبسه عليه، كيف تري الأمر ومتي يكف المثقف عن ازدواجيته؟
ليس هناك أي تحفظ على ما كتبه ناجي وليس هناك أي تعارض بين الإبداع والبذاءة كسجل من سجلات اللغة المعاشة وجانب من الواقع أوضح وأكثر انتشارا من ذي قبل. لا أظن المشكلة هنا في ازدواجية المثقف بقدر ما هي في عزلته وقلة حيلته وسط مجتمع مستعد لقتله ديمقراطيا وعبر أحكام المحاكم – مجتمع مستعد للانتحار – ولا هو من المعقول عمليا أن نتوقع ممن يشغلون مناصب في الدولة بكامل إرادتهم أن يقدموا على تضحيات من قبيل الاستقالة من مناصبهم تضامنا مع كاتب مثل أحمد ناجي…
هل فرضت الطبقة البرجوازية انحيازاتها علي الأدب؟
أعتقد أن هناك طبقة فرضت انحيازاتها على الحياة الثقافية نعم. طبقة الإنترنت ما بعد ١١ سبتمبر: هذه الطبقة هي التي قادت الاحتجاجات في ٢٠١١، وباركت صعود الإسلام السياسي للسلطة، ومارست التضليل الإعلامي إثر التدخل الثاني للجيش في ٢٠١٣…
في البداية بدت السمات “البرجوازية” لهذه الطبقة شيئا إيجابيا فهي شابة وواعية ومتفتحة وواسعة الأفق وهي متطورة وعلمانية، عملية، تؤمن بالقيم الكونية وتحافظ على صلتها بالعالم المعاصر. إلا أن الربيع العربي – وكما كشف حدود المجتمع نفسه – أثبت أن هذه السمات لم تكن إلا قشرة تخفي ليس فقط ذوقا ساقطا وانحصارا داخل قوالب جمالية ولغوبة ميتة وإنما أيضا “حنجورية” وطائفية وانبطاحا لروايات غربية مغلوطة عن الواقع العربي… فكما أن تسعين في المئة من السينما المصرية هي عبارة عن إعادة إنتاج ضعيفة وغير مقنعة لأفلام هوليودية هي نفسها سيئة في الأصل، كذلك تسعون في المئة من التحليل السياسي والنشاط الحقوقي والنظر إلى مفاهيم الهوية والحرية منقول وتافه ولا يصدق نفسه.
بماذا تفسر غياب حركة نقدية جادة مقارنة بالمنتج الأدبي؟
أعتقد أن النقد يحتاج إلى مؤسسات تعليم عال ومناخ تعددي واستعداد للحوار الصادق بعيدا عن المحرمات والمسلمات… وهذا كله غير متوفر.
لماذا ترفض الرأي القائل بأن ما يسمي بالكتابات الخفيفة “الأعلى مبيعا” من شأنها أن تجذب الشباب للقراءة؟ وهل هناك تعارض في أن يقدم الأعلى مبيعا كتابة عميقة أو أدبا كما ينبغي أن يكون الأدب؟
لا أرفض أي رأي ولا أي بيع، فقط أحاول أن أكون واقعيا. أعتقد أن هناك صلة قوية بين القراء الذين تقصدينهم وبين مشاهدي المسلسلات والبرامج التلفزيونية، فالكتب التي تباع بأعداد كبيرة عادة ما تكون أقرب إلى المادة التلفزيونية منها إلى الأدب… واعتياد مثل هذه الكتب لا يشجع على قراءة الروايات المعاصرة بل قد ينفّر منها لأنه يكرس لأنماط وجماليات مختلفة عن أنماط وجماليات الأدب إلى حد التناقض ولأنه يريح القارئ من جهد تشغيل الدماغ.
نظريا ليس هناك ما يمنع أن تباع الكتابة الجيدة بأعداد ضخمة، المشكلة في انتشار الكتابة السيئة دون غيرها لأنها تباع بأعداد ضخمة.

لقد أتوا من بعيد ليحاكموا جنسنا: قصائد ميشيل هولبيك ترجمة صلاح باديس

$
0
0
michel_houellebecq
.
1
كنت وحيدا خلف مقود البيجو 104
مع ال 205 كنت لأبدو أكثر لؤما
كانت تمطر بغزارة و أكره أن أتشاجر مع نفسي،
بقي عندي 3 فرنكات و 55 سنتيم.
.
ترددتُ أمام تفرّع “كولمار”
هل كان من الحذر أن أترك الطريق السريع؟
رسالتها الأخيرة تقول: سئمت منك و من مشاكلك.
سخافتك تقززني.
.
علاقاتنا باختصار عرفت نوعا من البرود،
الحياة دائما ما تفرِّقُ العشاق.
مُطرطقا أصابعي ومن دون أن أفقد عزيمتي
أخذتُ في إنشاد مطلع « Vie de Bohéme »
.

2
“الألمان خنازير، لكنهم يحسنون تشييد الطرقات”
كان يقول جدي بروح حسّاسة و ناقدة.
كنتُ متوترا، التعب من دون شك،
ولكني استقبلت بفرح الزفت الألماني.
كانت الرحلة تتحول إلى انهيار
وكنت على حافة نوبة هستيرية.
.
كان لدي ما يكفي من الوقود للوصول إلى فرانكفورت
هناك أكيد أني سأربط صداقات
وبين حبتي نقانق سنستخف بالموت
سنتكلم عن الإنسان وعن معنى الحياة.
.
أتجاوز شاحنتين لنقل اللحوم
ومن سعادتي بهذا المشروع أدندن أناشيد…
لا! لم ينته شيء، الحياة وتضحياتها
تمتدُ أمامي، جليلة ومبهمة.
.
الزائرون
هم الآن مجتمعون في نصف دائرة
ترتعش أصابعهم و تُزهر
و في كل مكان ينمو جو من الترقب
إنه يوم المغيب، لقد جاءوا من بعيد.
.
لقد جاءوا من بعيد وليسوا خائفين
كانت الغابة باردة ومُقفرة
عرفوا بعضهم البعض بإشارات الألوان
أغلبهم مجروح و نظراتهم جامدة.
.
يسود على هذه القمم صمتٌ مقدّس
تثبت السماء و يعود كل شيءٍ إلى مكانه
جثا الأول وكانت نظرته قاسية
لقد أتوا من بعيد ليحاكموا جنسنا.
.
اُحب المستشفيات
اُحبُ المستشفيات، ملاجئ المعاناة
حيث يتحول العجائز المنسيون إلى مجرد أعضاء
تحت النظرات الساخرة وغير المبالية
يهرش المرض أجسامهم وهم يأكلون الموز.
.
في غرفهم المُعَّقمة والقذرة
نرى بوضوح ضوء النيون يترصد حركاتهم
خاصة عندما يتريضون في الصباح
مطالبين، بصوت أقرب للنواح،
بسيجارتهم الأولى.
.
العجائز يعرفون كيف يبكون بصوتٍ خفيض
ينسون الأفكار وينسون الحركات
هم لا يضحكون، وكل ما تبقى لهم
لبضعة أشهر، قبل المرحلة الأخيرة،
.
بضع كلمات! غالبا ما تتردد،
شكرا لستُ جائعاً، سيأتي اِبني يوم الأحد
أحسُّ بألم في أمعائي رغم ذلك سيأتي اِبني
الابنُ ليس هنا، وأيديهم قد صارت بيضاء.
.
الموت صعب
الموتُ صعبٌ بالنسبة للعجائز الغنيّات
محاطات بفتيات جميلات تناديهن “حلوتي”
يضغطن بمنديل حريري على عيونهن الرائعة
وهنِّ يقمن لوحات وأنتيكات.
.
اُفضِّلُ موت عجائز الأشالام*
اللَّواتي يتصورن حتى آخر أيامهن أننا نحبهن
مُنتظرين قُدوم الابن المُفترض
الذي يدفعُ حقَّ تابوتٍ من خشب الصنوبر.
.
العجائزُ الجِدُّ غنيّات ينتهين في المقبرة
مُحاطات بأشجار السرو
إنها نُزهة لأترابهن الستينيين
للسرو رائحةٌ جيدة تطردُ البعوض
.
عجائزُ الأشالام ينتهين في محرقة للجثث
في دُرْجٍ عليه بطاقة بيضاء
العمارة هادئة، لا أحد -حتى يوم الأحد-
يُزعجُ نوم الحارس الأسود.
………
*الأشالام HLM مجّمعات سكنية في فرنسا للفقراء وأغلبيتهم من الأفارقة والمغاربة.
.


Made with Repix (http://repix.it)
.
 قُلوب كثيرة
قُلوب كثيرة دقّت على هذه الأرض
والأشياءُ الصغيرة المحشوة في الخزانات
تحكي القصة الكئيبة والمُحزنة
لأولئك اللذين لم يعرفوا الحُب على هذه الأرض.
.
الأواني الصغيرة للعجائز العزّاب
الملاعق المتآكلة لأرملة الحرب
يا الله! ومحارم العجائز الآنسات
داخل الخزانات، ما أبشع الحياة…
.
الأشياء مرتبة بعناية والحياة خاوية
والتسوق في الليل من بقايا البقالة
تلفزيون من دون مُتابع، وجبة من دون شهية.
.
أخيراً المرض، الذي يجعل كل شيء أكثر قذارة
والجسد المتعبُ يتحللُ في الأرض
الجسد الذي لم يُحِبْ ينطفئ من دون سحر.
.
.
.
القصائد المترجمة من ديوان “تتابع السعادة” la poursuite du bonheur أو the pursuit of hapiness المنشور عام 91 و كان ثاني ديوان لهولبيك بعد “البقاء حيا” Rester vivant عام 91 أيضاً.
أغلب القصائد فيه نُشرت من دون عنوان، والقصائد المترجمة هنا – باستثناء “زائرون” وأول قصيدة وردت مرقمّة – عُنونت بأول بيتٍ فيها كما وردت في الفهرس. القصائد كتبها هولبيك بطريقة كلاسيكية و لكنه تناول فيها الحضارة الغربية، موضوعه الأثير، بكل جوانبها المظلمة، أو الفوضى التي توجد خلف اللافتات الإشهارية العملاقة المُبهرة. وحتى عندما بدأ في كتابة الروايات، جاءت كتابته كرد فعل على الروائيين الذين يكتبون وفق تقاليد “الرواية الجديدة” مهتمين بصدى كتبهم في الوسط الأكاديمي ومهملين الجمهور الواسع، و قد صرح في حوار مع مجلة باريس ريفيو سنة 2010 قائلا في ذات السياق: الناس كانوا يريدون أن يقرأوا عن الحياة اليومية التي تدور في المكاتب و الشوارع و البيوت.

علي لطيف: طبيب عائلة الشامخ

$
0
0

Gabriel Grun, La Pequeña Aracné. Source: macabregallery.com

لا أعرف لماذا تذكرت ليلة الإثنين قبل ما يبدو كأنه الأمس، عندما أنزلتُ جسد أمي المعلق من السقف المهترئ. كنت أفكر، عندما رأيت شفتي ابن عم باسل تتحركان وتنقلان نبأ الموت قبل خمسة أعوام، بأنني في الحقيقة لا أريد الاستمرار في العيش لكنني لا أريد أن أموت.
***
لا أبالغ إذا قلت إن باسل باسل الصديق ليس رجلاً بمعنى الكلمة، ولا يرتقي حتى لمرتبة كلب. كان مع أخيه محفوظ بوابة أغرب حدث مر في حياتي منذ ليلة الإثنين تلك.
عندما أتى باسل إلى العيادة التي بدأت في العمل بها أول ما قدمت للمدينة عام ١٩٩٦ وطلب مني الكشف عليها، لم أمانع. في اليوم التالي كنت أمام منزله منتظرًا أن يفتح لي الباب.
باسل باسل الصديق ومحفوظ باسل الصديق أخوان من عائلة الشامخ المعروفة في المدينة. كانت تجارة آل الشامخ إحدى ركائز اقتصاد المدينة الحديث. عندما دخلت الغرفة الصغيرة تحت الأرض ورأيتها، وقعت في حبها كما يحدث في الأفلام تمامًا. قال لي باسل على الدرج إن حالة أختهما حواء نادرة، وإنه لا يجب عليّ أن أقول لأي أحد عليها دون الرجوع إليه ومحفوظ أولًا. باب الغرفة كان مصنوعًا من الحديد وكان موصودًا بعدة أقفال. أنا لا أعتقد أن أي طبيب رأى في حياته مثل هذه الحالة.
حواء امتلكت رأسين؛ أقولها بعد مضي أعوام من أول مرة رأيتها في حياتي ولا أكاد أصدق نفسي. أنا لم أفهم ما أراده مني باسل بالضبط لكن بعد ساعة من الكشوفات عليها، اكتشفت أن لديها ما يشبه القلب في رأسها الثاني. بدت وظائف حواء الفسيولوجية على خير ما يرام، فماعدا رأسها الثاني لم تبد أنها تواجه أية مشاكل صحية. عندما انتهيت من الكشوفات، حدث شيء جعل شعر جلدي ينتصب رعباً.
في اللحظة التي قمت فيها من السرير سمعت صوتًا غليظًا، أتى من اتجاه حواء: “إذًا يا دكتور، ما هي نتائج كشوفاتك؟” ضحك باسل لبضع ثوان على مشهد صدمتي، أعتقد أنني سقطت على الأرض عندما رأيت الرأس الثاني لحواء مكان الرأس الأول. “لا تخف يا دكتور، أنا محفوظ باسل الصديق، حواء بالداخل ولن تظهر إلا عندما أسمح بذلك. إذًا ما هي نتائج الكشوفات؟” سألني مجدداً.
لا أحد من معارف آل الشامخ كان قد رأى محفوظ سابقًا. فكما علمت من محفوظ، قام والدهم بإخبار الجميع أن ابنه يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية ويعمل معهم من هناك. أما حواء فلا أحد يعرف أن آل الشامخ لديهم ابنة من الأساس.
أنا لا أعرف السبب وراء ثقة آل الشامخ بي والتعاقد معي لأكون طبيب محفوظ وحواء. ربما لأنني كنت غريبًا ولا أحد سيصدقني إذا تفوهت بأي شيء، أو ربما لأن محفوظ ارتاح لي. بعد مدة اكتشفت أن الرأس وراء نجاحات تجارة آل الشامخ تعود لمحفوظ. أنا لم أقابل في حياتي رجلًا أذكى منه. أما حواء فقد كانت أقل حيلة لكنها أكثر لطفًا، كانت عفوية كالفتيات الجميلات اللاتي أراقب لعبهن في الحديقة من نافذة مكتبي.
أكذب إذا قلت إنني لم أفكر بجسد حواء أول مرة رأيتها، كانت بيضاء ونضرة مثل جورجينا رزق، كانت تشبه أمي. “يُعجبك جسد حواء؟ أليس كذلك يا نور الدين؟” سألني محفوظ ذات مرة. “لا تكذب عليّ، لا بأس، حواء معجبة بك أيضًا.” عندما بدأنا ممارسة الحب، قال لي محفوظ إن والده إذا علم سيقتلني، أما باسل فلا خوف منه، فهو كلب تحت قدميه.
اعتقدت خلال تلك الفترة أنه ربما، أعني ربما، يمكنني العيش بشكل طبيعي معهما إذا أمكننا الخروج من البلد.
لكنني كنت أعلم أن ذلك مستحيل. كان عليّ أن أعرف أن مسألة اكتشاف باسل لعلاقتنا هي مسألة وقت. عندما حدث ذلك، أرسل باسل عدة رجال إلى منزلي. أخبروني أنني إذا تجرأت على العودة لمنزل آل الشامخ مجددًا، سيقتلونني. أستطيع تذوق طعم معدن رأس المسدس في فمي إلى اليوم، لسبب لا أفهمه. قضيت تلك الليلة ألعق جروحي في المستشفى المركزي. بعد أن خرجت بقيت في المنزل قرابة الشهر، مخدرًا تمامًا. لولا الأمفيتامين، لا يمكنني التكهن بما كنت سأفعله.
“ماذا لو كان عندي رأسان، هل سترغبين بي عندها يا كلير؟”
تلك الفترة كنت في علاقة مع ممرضة فلبينية تعمل معنا في العيادة، وقد كانت تأتي لزيارتي من حين لآخر. في البداية كنت أدفع ثمن الليلة، لكن بعدها توقفت عن ذلك وهي توقفت عن طلب المال. كنا نشرب وندخن ونأكل الأمفيتامين بكثرة ذلك الشهر. لم أخبرها قط عن حواء ومحفوظ ولا أعرف لماذا كنت متأكدًا أنها تعرف. أنهت كلير علاقتها بي عندما حاولت خنقها ظنًا مني أنها الشيطان. بعد تلك الحادثة توقفت عن تناول الأمفيتامين وقررت المضي قدمًا بحياتي، ومغادرة البلد بأي طريقة ممكنة.
***
تحصلت بفضل أحد زملائي في اسكتلندا على فرصة عمل في مستشفى هناك. أنا مدين بحياتي للسيد سليمان قناو، الذي ساعدني في الغربة دون أي سبب يذكر. حدث كل شيء كما هو مقدر، تزوجت ابنة أحد أطباء بلدنا وتحصلت على دوام كامل وانتقلت من الإيجار إلى الاستقرار.
أنا لم أقل إلا للسيد سليمان قناو على ما حدث لي مع آل الشامخ، تفاجئت أنه لم يفاجأ بروايتي. ذلك اليوم علمت أن دماء حواء ومحفوظ لا تجريان في عروق آل الشامخ. قال السيد قناو إنه لا أحد يعلم الحقيقة بالضبط، لكن عددًا قليلًا من الناس المقربين جدًا للوالد يعرفون أن زوجته توفيت بعد ولادتهما مباشرة، وأنه متأكد أن محفوظ وحواء ليسا من دمه بل من دم الشيطان. لكنه لم يتجرأ على قتلهما أو رميهما، لأنه كان مؤمنًا أن هذه تجربة من الله.
“الشيطان بذاته تجربة من الله،” قال السيد سليمان قناو في نهاية حديثه.
في مرحلة ما من حياتي في غلاسكو، كنت أسبح بعيدًا عن الواقع في الذاكرة، شدني استبداد الماضي، ربما لأنه الشيء الوحيد الذي لا سيطرة لي عليه مهما حاولت. لقد أراحني العجز المستحيل. عند نقطة ما في أيامي معهما، عبدت محفوظ وعشقت حواء. كانا المثالي. لا أعتقد أن أحدًا يمكنه القول إنه قابل إلهًا في السابق. محفوظ انغمس في ألوهيته، وحواء بدت كأنها ابتلعت حوريات الفردوس كلها عند ممارسة الحب.
***
عندما مات ابني الوحيد قبل خمسة أعوام، دعوت محفوظ أن يطلب من الله إعادته لي. كان بالنسبة لي الأقرب للسماء من السماء بذاتها. أنا لم أقل لزوجتي عنهما. وعندما أعطيت اسميّ محفوظ وحواء لابني وابنتي، قلت لها إنهما اسما جديّ. أنا لم أملك عائلة في حياتي ما عدا أمي التي تركتني وأنا في الرابعة. لا أعرف من هو أبي، ولقبي الذي أملك هو اللقب الذي أعطوه لي. لحسن حظي، عائلة زوجتي لم تهتم بالبحث في ماضيّ وكشف أمري، لربما كنت محظوظاً أكثر مما أظن.
انحرف الهدوء لهلع بعد موت ابني، زوجتي دخلت إلى عالم العقل المظلم، حيث تعجز كيمياء المصنوع عن الثأثير. كل محاولاتي لسحبها من هناك فشلت. بدا كأن هناك لعنة حلت بنا. بعد موت ابننا، مات والدها. بعد ثلاثة أشهر ماتت والدتها. الموت لعب الدومينو بنا.
طوال تلك الفترة انتظرت اكتشاف لحم زوجتي المعلق من السقف في أية ساعة. لا أعرف لماذا اعتقدت أن ابنتي تنتظر مثلي أيضاً، ولا أعرف لماذا أخبرت ابنتي عن أمي، إلا أن ردة فعلها أراحتني.
“بابا، كل شيء لن يكون بخير، على الأقل مازلنا نملك بعضنا البعض،” قالت لي بينما تجلس على الكرسي بجانب كرسي قيادة السيارة، حيث انعكس وجهها على عينيّ، وعلى النافذة بجانبها، والمرآة الجانبية، وعلى الأرجح على السماء، ووجوه ميكانيكيي الموت العميان في القاع.
هاتفتني ابنتي وأنا في طريقي للمستشفى ذات مساء. “بابا، ماما ماتت،” وأقفلت الخط. شعرت بنضارة القدر في أجواء الظلمات، أن مصير زوجتي لا يشبه على الإطلاق مصير أمي. من يعرف من أين تحصلت على المسدس. كان من المستحيل بالنسبة لي أن أفكر في أنها ستفنى برصاصة في قلبها.
“هل تؤمن أنه لا يوجد موت؟” سألني محفوظ ذات مرة بعد أن أخذ مكان حواء.
اخترت الصمت عندها وتركته يتحدث في ظلام الغرفة الموصدة. كانت الخيالات تمر بجانبنا وتتلاشى، شعرت بها ولكنني لم أرها. إنه نفس الشعور عندما يمر الناس بقربي ولا أراهم إلا في النهاية، ما عدا أنني في تلك الغرفة لا أراهم أبدًا. لم أؤمن بما قال لأنني لم أفهم كلمة واحدة. لقد رأى من خلالي، أعرف ذلك، شاهد عينيّ تحدقان في نهدي حواء. كنت شبقًا كاللقيط في خضم الانتصار لشرف والدته. لم يقل لي، ظلَّ يتحدث. وظلت الخيالات تمر بجانبنا.
تذكرت المشهد عندما رأيت الدماء حول جسد زوجتي. ابنتي وقفت أمامي. كلانا شعر  بخيال زوجتي يخرج من خلال شرفة غرفة النوم ويتلاشى في السماء. أعيننا لاحقت إحساسنا بحركة ما لا نراه. لم أتذكر ما قاله محفوظ جيدًا، لكنني أعتقد أنه قال في جزء ما إن الموت هو ما يجعلنا نحيا والحياة هي ما يجعلنا نموت، أو شيئًا من هذا القبيل. أنا لا أفهم، وهذا لا يزعجني قط.
***
بعد العزاء بيوم زارني السيد سليمان قناو برفقة رجل غريب. “هذا محمد محمد الشامخ،” قدمه السيد سليمان قناو. أخبره إنني كانت عندي علاقة بعائلة باسل الشامخ، لم أنف ذلك عندما جلسنا وسألني عن علاقتي بهم. “كنت طبيب العائلة،” قلت له. سألني إن كنت طبيب محفوظ أو حواء. لابد أنه يعرف، قلت في نفسي.
روى الرجل ما حدث لآل الشامخ. أصاب والدهم مرض. لا أحد من الأطباء استطاع تشخيص مرضه. اعتقد والدهم أن الشيطان يقتل عقله، ولكن لم يصدقه أحد. “الشيطان ربح، الشيطان هنا،” كان يهذي العجوز.
في إحدى الليالي حسب رواية أحد حراس المنزل، دار شجار في منزلهم. سُمعت صرخات فتيات. منزل آل الشامخ ليس به نساء غير حواء التي لا يعرف الكثير أنها موجودة، أما باسل فلم يتجرأ مرة في جلب مرضه بالفتيات الصغار إلى منزل والده. احترق المنزل بعدها، ولم تجد الشرطة إلا جثة باسل باسل الصديق. سارت إشاعة بين معارف وأقرباء العائلة أن الوالد قد غادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية إلى ابنه محفوظ لتلقي العلاج، وترك التجارة كلها تحت إدارة باسل. “أنا أعتقد أن علاقة باسل بعصابات المخدرات هي التي أدت إلى مقتله وانهيار تجارتهم،” قال الرجل في نهاية حديثه.
“هل تؤمن أنه لا يوجد موت؟” سألني محفوظ في ذلك اليوم. ربما لا يوجد حقاً، ربما لم يموتا، ربما كان محفوظ ألوهيًا كما اعتقد وكما أعتقد، ربما صعدوا جميعًا إلى حيز ما يفوق معرفتي. لكن لا توجد حقيقة عندما يتعلق الأمر بمصائر الخفاء. أنا لا أعرف ولا يهمني إلى أين ذهبوا، لكنني متأكد تمامًا أنهم جميعًا لم يعودوا معنا على هذه الأرض.
في هذا الصباح الهاديء، أنظر إلى ابنتى حواء نائمة فوق سريرها تتنفس ببطيء وسهولة. جسدها اليافع يملأ هواء الغرفة، لعلها تحلم بعالم مواز تضمحل فيه المأساة أمام السعادة. ربما هناك في عالمها لا قلق، ربما أمي هناك، تنتظرني بيضاء الجلد ومبتسمة مثل انعكاس ابنتى لحظة ولادتها، مغمورة في دفء نابض مثل الدم الذي يجري في عروقي. الآن أستطيع أن أرى كم كنت محظوظًا رغم أشواك الشياطين في الطريق.

Fatima Berro’s Beirut |البحر بعيد: بيروت فاطمة برّو

$
0
0

 

لا تُحدَّد النهايات ببطء. ولا تُقاس بحجم العمر

البحر بعيد ولا مجال للسباحة في كوب غاز

هذه المواد تخرّ أمامي فأستعملُها

 

 

 

رغباتنا المتلاحقة منذ الطفولة: أن ندخل في غسالة أُمّنا

الأشجار المعوجّة قرب محطات البنزين

لا أقدِّر عمر الإله. لا أرى الآلهة أصلاً

أنتظرُ خارج فرجك الرطب الدافئ إلى حين أن يخفّ البرد

 

Viewing all 44 articles
Browse latest View live


Latest Images